أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
يعد التنظير الفيزيوكوني والإنساني عملية بشرية عقلية معرفية فطرية موغلة في القدم تتزامن بل وتتقاطع أبسط هيئاتها الإبستمولوجية مع اللحظة الفيزيوكونية الأولي التي وطأت فيها قبل آلاف السنوات أقدام الإنسان الأرض.
ومنذ تلك اللحظة الحاسمة الأولى والإنسان لم يزل هو الإنسان كما كان في الماضي يُنَظِّر عبر مختلف مراحل تطوره الفكري والعلمي باحثا عن أسرار كينونته وماهيتها وعلة وجوده في هذا الكون ومآله فيه.
وظل هذا الإنسان كما كان عبر آلاف السنوات يسبر حتى يومنا هذا خفايا علاقاته ببني جنسه وبغيره من الموجودات والكينونات الكونية الحيوية والجمادية الظاهرة والباطنة على حد سواء بل ويرصد في كل حين أيضا مدى ارتباط تلك الكينونات المؤتلفة التراكيب زمكانيا بعضها ببعض. ولم يزل هذا الإنسان على هذا الحال كما كان عبر تاريخه السحيق يسبر أيضا سر موئله الأرضي باحثا عن العلل الصغرى والكبرى وراء وجود هذا الموئل وديناميكيات عملياته المختلفة القابعة ضمن منظومة سننية كونية نجمية وكوكبية مجالية ديناميكية أرحب زمكانيا. كما كان هذا المخلوق البشري، منذ فجر بواكير حقبه يتخذ أقصر الطرق التي تُرَسِّخ معارفه بالطبيعة الفيزيوكونية والإنسانية وسننها التي تضبط بأمر الله صيرورة موئله الأرضي وتنظم وجود الكينونات فيه ومساق حتفها الإنتروبيِّ المقدر الحتمي الوقوع. ومع تقدم أزمان هذا الموئل وتقادمه وتطور الفكر البشري والحياتي المصاحب لذلك التقادم نشأت عبر التاريخ البشري حضارات عديدة كحضارة بلاد ما بين النهرين، ووادي السند، والمصرية القديمة، والمايا، والصينية، والإغريقية القديمة، والفارسية، والرومانية، والأزتك، والإنكا، والاسلامية.
وتعد الحضارة الإغريقية القديمة هي الحضارة الأقرب صلة بموضوع هذا المقال لأنها تمثل المهد الحضاري الذي انطلقت منه في أوروبا تحديداً الشعلة الأولى للفكر التنظيري الفيزيوكوني والإنساني وخاصة في الفترة التي تمتد من القرن السابع قبل الميلاد حتى الفترة الهلينية من تاريخ هذه الحضارة.
وعلى أية حال لا يستغرب أيضا أن تُرجَع الجذور المعرفية للمساقات الفيزيوكونية والإنسانية التنظيرية المبكرة في أوروبا الى حقب ما قبل الفترة الهلينية أي تحديدا الى حقبة ملحمتي إلياذة وأوديسة هوميروس. كما يمكن ارجاع تلك الجذور الى الفلسفات الإغريقية في عهد التدوين والسبر والاعتبار كفلسفة هيرَقليطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو. كما أنه من غير المستغرب ان تكون تلك المساقات التنظيرية قد تأثرت بإغريقيات سفسطة وانتستينس ونسبية بروتاجوراس وجدلية رسائل سينيكا الطبيعية الرواقية وتنظيرات أرتوستينس وبطليموس. وعلى الرغم من انتقال زمام الفكر من الإغريق إلى الرومان وما صاحب ذلك الانتقال من تعزيزٍ لسطوة الكنيسة الأوروبية وهيمنتها في عهد الحاكم الروماني قسطنطين، إلا أن روافد المساقات الفيزيوكونية والإنسانية التنظيرية ظلت محافظة آنذاك على نزعتها الإغريقية نتيجة لهيمنة فلسفتي أفلاطون المثالية وأرسطو الكلاسيكية تحديدا على المنابع الرئيسية لإيقاعات الروافد المعرفية الكنسية في أوروبا آنذاك. ولقد ساعد على ترسيخ تلك النزعات الإغريقية كنسيا عجز أناجيل العهد الجديد الأربعة من توفير معلومات معرفية تتسق مع وقائع الحياة والكون أو مع الكيفيات التي تُؤثر بأمر الله في تلك الوقائع وتُقَدِّر صيرورة ظواهرها الطبيعية والبشرية وإيقاعات مساقات فنائها. هذا بالإضافة الى تناقض إصحاحات العهد القديم الثلاثة الأُوَلِ تحديدا مع طبيعة الوقائع الإنسانية والفيزيوكونية المقيسة المستجدة التي أسفر فجرها آنذاك خفية أو على استحياء بذات النزعة التي شهدتها المعارف أبان العهود الإغريقية القديمة. وعلى الرغم من السمات المتحفية لفلسفات أفلاطون وأرسطو الإغريقية النزعة مضمونا وتأويلا إلا أنها أضحت بدعم من الحكم الروماني جزءاً لا يتجزأ من التشريع الكاثوليكي المعرفي الإنساني والفيزيوكوني الأوروبي الذي كان يشدد على ضرورة الاعتقاد بكوكب الأرض مركزا للكون ومرجعا للأجسام المتحركة فيه، فضلا عن جزم التشريعات الكنسية، تحت تأثير النزعة الاغريقية، بغائية الأشياء وانعدام الحركة في الفراغ. ونتيجة لذلك أصبحت الكنيسة خلال العصور الوسطى المصدر المطلق الوحيد المالك لحق التشريع وتفسير الظواهر الأرضية الطبيعية والكونية والإنسانية بل والمعاقبة بالقتل والتشريد لكل من يغرد خارج سرب إيقاعات المساق الفلسفي الكنسي الأوروبي الإغريقي النزعة.
ولقد ظل الحال كذلك إلى أن قيض الله للبشرية عامة ولأوروبا خاصة من ينقذها من الغياهب الكنسية ذات النزعات الاغريقية المتحفية القَبلِيَّة على حد سواء. فتأثر المنظور الأوروبي آنذاك بعلوم الحضارة الإسلامية وإيقاعاتها الفيزيوكونية والإنسانية التي وفرت للمشتغلين بالتنظير مفاهيم ثرية غير مسبوقة عن الوجود وأسرار الخلق وغاياته ومآله. كما تأثر ذلك المنظور أيضا بمفاهيم مهمة أخرى تتعلق بكيفية بدء الكون وسيرورة الزمكان من عدم، ونفي سرمدية المادة وعدم فنائها، وهدم الفكرة الإغريقية المتعلقة بانغلاق الكون واكتفائه السببي من جذورها، وتحرير العلوم الفيزيوكونية والإنسانية من سيطرة بعض النزعات الإغريقية والخرافات والأساطير التي رضخت لها تلك العلوم طيلة الفترة الكنسية. فتكونت في أوروبا، نتيجة لتأثرها بعلوم الحضارة الإسلامية، مساقات تنظيرية فيزيوكونية وإنسانية تختلف معرفيا عن طبيعة المساقات التنظيرية الأوروبية الكنسية الاغريقية الفلسفية النزعة التي سبقتها زمكانيا. فتحولت تلك المساقات بطبيعة الحال، نتيجة لذلك التأثير الإسلامي، من منظورها الكنسي الذي هيمنت عليه الفلسفة الإغريقية الميتافيزيقية التوجه إلى منظور تجريبي فيزيوكوني وإنساني تحليلي جديد يربط تفاسير تلك المساقات ونمذجتها الرياضية بتطبيقات المنهج الفروضى الاستقراء - استدلالي الذي ظلت مفاهيمه، رغم الدور الذي لعبته علوم الحضارة الإسلامية، متأثرة للأسف في تلك الحقبة الأوروبية من حيث المبدأ بالمادية الإغريقية الرواقية المعتدلة والأبيقورية المتشددة على حد سواء. وتلاحقت فصول هذه المسرحية في أوروبا سريعا فيما بعد متوجة تلك الحقبة بأعمال كوبرنيكوس وجاليليو وكيبلر وفولتير التي أسهمت جميعها، وخاصة بعد نشأة عدد من المدارس والمذاهب الفكرية، في تقويض عرى لبنات المنظور الأوروبي الكنسي الإغريقي النزعة. كما تُوِّجَت فصول هذه المسرحية فيما بعد بظهور نظرية نيوتن للجاذبية التي مثلت تحولا علميا ثوريا لا يمكن غض النظر عن تأثيره المباشر على مساقات الإيقاعات التنظيرية للعلوم الفيزيوكونية التي سادت آنذاك.
ونتيجة لهذا الوضع النيوتوني الثوري تكَّون في هذه الفترة من التاريخ الأوروبي مساق فلسفي ذي إيقاعات تنظيرية فيزيوكونية جديدة توسعت بموجبها الشقة بين الهندسة الإقليدية وغير الإقليدية (هندسة لوبا تشيسكي هربرت). كما كبر الفارق نتيجة لهذه الإيقاعات بين أسس إغريقيات فيزياء أرسطو وبطليموس وألبرت الكبير وتوماس الإكويني وبين فيزياء كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن التي احتفظت في هذه المرحلة، رغم كبر الفارق بينها وبين الفيزياء التي سبقتها، بالنكهات الاغريقية على مستوى تأويل التفاسير متجردة، نتيجة لتطور المساقات الفيزيوكونية والإنسانية التنظيرية، من براثن النزعات الاغريقية القبلية على مستوى المحتوى والتراكيب المختلفة موضوعيا. كما أسقط هذا المساق الفيزيوكوني التنظيري الجديد فروض القسيس جيمس أرثر وبوفن وجيمز هلتون واعتلت هذه العلوم نتيجة لذلك كبرياء الحتمية والتجرد من الدين وتبنت التفسير المادي بمختلف اتجاهاته وتأويلاته المعرفية الفيزيوكونية والإنسانية محاكية في ذلك الاتجاه، كما اشرت آنفا، المادية الرواقية والابيقورية الإغريقية القديمة. ولقد كان لهذا التحول الثوري للمساقات الفلسفية التأسيسية للفكر التنظيري في هذه العلوم المتمردة على التطبيع الكنسي للفكر الاغريقي دور فاعل في إشعال جذوة البدايات الأولى للثورة الصناعية. فساد خلال هذه الفترة من تاريخ المساقات الفيزيوكونية والإنسانية التنظيرية فكر ديكارت الذاتي وبيكون المنهجي وكونت الوضعي ومالتوس المجرد وسارتر الديكارتي ذي الأصول التأويلية الإغريقية القديمة. كما عاصرت هذه الفلسفات انتشار الفكر الماركسي العابر للحدود من روسيا الى شرق أوروبا فتأثرت بذلك الانتشار التأويلات العلمية للتنظيرات الفيزيوكونية والتفسيرات للظواهر الإنسانية والمجتمعية وخاصة عندما اقترنت تلك الفلسفات بالفلسفة الديالكتيكية أو ما يعرف بالجدلية المادية التاريخانية الهيجلية الإغريقية النكهة التي تأسست تحديدا على التضاد بين مادة الموضوع متأثرة بنظيرتها الجدلية الاغريقية النزعة التي تعتمد وفقا لأفلاطون على التضاد بين سقراط وشخوص محاوريه بعيدا عن مادة الموضوع التي تبنتها الديالكتيكية الهيجلية مبدئا لتأويل التفاسير المتضادة جدليا. وصاحب هذه الحقبة من تاريخ العلوم الفيزيوكونية والإنسانية في أوروبا تحديدا ظهور عدد من المؤلفات التي دفعت منظور هذا العلم لاتخاذ مساق ترتسم عليه آثاالفكر الذي تتبناه تلك المؤلفات بمختلف إيجابياتها وسلبياتها المعرفية الباطنة والظاهرة. ومن أمثلة تلك المؤلفات «نقد العقل الخالص» لكانت، و»أصل الأنواع» و»أصل الإنسان» لداروين، الذي أسس عليهما سبنسر فيما بعد مبدأه عن الانتخاب الطبيعي، هذا إضافة الى «الطوطم والتابو» و»الإيجو والإيد» لفرويد، و»جامع الدعوى» لكارل ماركس الذي أخذ فيه بمبدأ النقيض عن فيتشه وهيجل. كما تشمل تلك المؤلفات «مقال عن العقل الإنساني» لجون لوك وكتابات جاك تورجو عن فلسفة التاريخ.
وتبنى هكسلى مع غيره من الليبراليين المعارضين للتيار الديني في أوروبا كهيجل بعض نظريات هذا المنظور كنظرية «التطور لداروين» وقوانين الانتخاب الطبيعي التي أقيمت على أسس إغريقية تنظيرية قديمة لمفهوم الصراع من أجل البقاء. وتعد أفكار سبنسر المعروفة بـ»الدارونية الاجتماعية» التي فسر العلماء بموجبها التغيرات في المجتمع الأمريكي تفسيراً بيولوجياً مثالا صارخا آخراً على مدى التأثر بمبدأ الصراع من أجل البقاء الموغل إغريقيا في القدم.
ولا غرابة في ذلك فإن سبنسر هو أحد حملة فكر مالتوس الذي نادي بحق البقاء للأقوى في عالم تزداد فيه الموارد، حسب رأيه، بمتواليات حسابية بينما يزداد السكان فيه وفق متواليات هندسية. وقد تجلي نداء مالتوس بوضوح في كتاب سبنسر الموسوم «نظرية حول السكان»، مما يؤكد يقينا مدي تأثر سبنسر بفكر مالتوس وبمنظوره السكاني. ولا شك أن مثل هذا الفكر الصراعي الاغريقي والروماني الجذور قد طال فيما بعد عالمنا المعاصر فأثّر على رؤية بعض المفكرين لمسار التاريخ كهنتنغتون صاحب نظرية «صدام الحضارات» وفوكو ياما صاحب نظرية «نهاية التاريخ» اللذين فرضا على العالم المعاصر منظورا سياسيا تسلطيا أحادي التفكير يعزز مفاهيم الصراع بين الشعوب. كما يقصى هذا المنظور شخصيات الشعوب الاعتبارية ويختزل سيادات الدول ضمن إطار النظام الديموقراطي الأمريكي الذي يعده فوكو ياما نهاية التاريخ. وهكذا ظلت المناظير المفاهيمية بين مد وجزر إلى أن طغي على أروقة العلوم الطبيعية والكونية والإنسانية ومحافلها في منتصف القرن الماضي المساق الايقاعي الفلسفي للثورة الكمية بتنظيراتها المختلفة التي تضم مفاهيم جديدة في مجالات عديدة كالتحليل المكاني والاحتمال والحتم والإمكان. وتمثل هذه الثورة في رأي المتواضع البدايات الأولى لتحرر المعارف الفيزيوكونية والإنسانية الى حد ما من بعض قيود النزعات المعرفية الاغريقية التوجهات على الرغم من استمرار التزام هذه الثورة على استحياء ببعض التأويلات المعرفية الاغريقية الحتمية المبكرة العهود. وقد تُوِّجَت هذه الفترة من تاريخ الفيزيوكونيات بظهور نظريتي النسبية الخاصة والعامة اللتين رافق حدوثهما الكشف عن الدقائق النووية في فيزياء الكم التي تعد مفاهيمها في اعتقادي امتدادا لتصور ديمقريطس الفلسفي التأويلي الذري التاريخاني الإغريقي النزعة الموغل في القدم. ولقد كان لأعمال بلانك دور فاعل في إثراء المنظور المعرفي للعلوم الفيزيوكونية وخاصة بعد إرسائه لأسس فيزياء الكم التي قادت الى زيادة فرص تعزيز مفاهيم الاحتمال وتقليص فرص مفاهيم الحتم النيوتوني المطلق الإغريقي الكلاسيكي النكهة. ويبذل العلماء اليوم جهودا حثيثة لصياغة ما يعرف بـ»نظرية كل شيء» التي تعكس في رأيي مقاربة بينها وبين المحاولات التي قام بها كل من افلاطون وأرسطو لبناء نظام كوني شمولي واحد.
ومن المؤمل أن توحد هذه الهيئة التنظيرية تحديدا بين نظريتي النسبية العامة والكم وغيرها من النظريات المعروفة فيزيائيا في معادلة واحدة قادرة على وصف التفاعلات الأساسية بين القوى الفيزيوكونية الأربعة وتفسير جميع الظواهر الفيزيوكونية والعوامل المؤثرة فيها زمكانيا. وتعد «نظرية الاوتار الفائقة» أو التي تسمى أحيانا بـ»نظرية الاوتار فائقة التناظر» إحدى المساقات التنظيرية الفيزيوكونية المرشحة للصياغة النهائية لهذه النظرية فائقة التناظر. وهي نظرية تختلف بطبيعة الحال فيزيائيا عما يسمى بـ»نظرية الاوتار البوزونية» التي تتضمن دورا للفرميونات في تطبيقات التماثل الفائق الذي ربما يُحَجِّمُ مستقبلا مبدأ التناظر الكلاسيكي الذي تدور مساقات التنظير الفيزيوكونية المعاصرة في رحاه وعلى إغريقية ليلاه تدندن.