محمد الباز
في الوقت الذي يشهد فيه العالم تحوّلًا متسارعًا نحو الاقتصاد الرقمي، تبرز العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية كأحد أبرز التطورات التي قد تعيد تشكيل النظام المالي العالمي.
لم تعد هذه العملات مجرد مفاهيم نظرية تُناقش في المؤتمرات، بل أصبحت واقعًا تعمل عليه دول عديدة، من بينها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، من خلال «الريال الرقمي» و»الدرهم الرقمي».
العملات الرقمية للبنوك المركزية، أو ما يُعرف اختصارًا بـCBDCs، هي نسخة رقمية من العملة الرسمية تصدرها وتديرها البنوك المركزية. على عكس العملات المشفرة مثل البيتكوين، فإن هذه العملات مدعومة من الدولة وتتمتع بثقة قانونية وتنظيمية كاملة، والهدف منها هو تيسير المدفوعات، وتحسين كفاءة الأنظمة المالية، وتعزيز الشمول المالي.
وتنقسم هذه العملات إلى نوعين رئيسيين: عملات رقمية مخصصة للاستخدام بين المؤسسات المالية (Wholesale CBDCs)، وهي تُستخدم في تسوية المعاملات بين البنوك والمصارف المركزية. والنوع الثاني هو عملات مخصصة للاستخدام العام من قبل الأفراد والشركات (Retail CBDCs)، وتستهدف تسهيل الدفع اليومي وتوفير أدوات مالية رقمية آمنة ومباشرة للجمهور، وهو ما تعمل عليه دول عديدة ضمن مراحلها التجريبية.
في عام 2019، أطلقت السعودية والإمارات مشروعًا مشتركًا تحت اسم «عابر»، بالتعاون بين مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) ومصرف الإمارات المركزي، بهدف اختبار استخدام عملة رقمية لتسوية المعاملات المالية بين البلدين، وقد صدر تقرير مشترك في فبراير 2020 يؤكد نجاح المرحلة التجريبية للمشروع، مشيرًا إلى إمكانية استخدام العملة الرقمية بكفاءة في المدفوعات العابرة للحدود بين البنوك المركزية
في عام 2023، أعلنت الإمارات رسميًا عن خطة متكاملة لإطلاق الدرهم الرقمي ضمن إستراتيجيتها للتحول المالي الرقمي، وتم التعاقد مع شركات عالمية مثل G42 Cloud وR3 لتطوير البنية التحتية للعملة الرقمية الوطنية. وبالفعل تم تنفيذ أولى المعاملات التجريبية العابرة للحدود باستخدام الدرهم الرقمي في يناير 2024، بين الإمارات والصين وتايلاند وهونغ كونغ، ضمن مشروع mBridge بقيادة بنك التسويات الدولية.
أما السعودية، فقد كشفت في 2023 عن نيتها توسيع نطاق اختباراتها للريال الرقمي، وذلك بالتعاون مع جهات محلية من القطاع المصرفي وشركات التكنولوجيا المالية. وأوضحت «ساما» أن المشروع لا يزال في مراحله التجريبية، لكن النية تتجه لاعتماد تدريجي للعملة الرقمية في بعض الخدمات الحكومية والخاصة بحلول 2025.
يعكس هذا التوجّه رغبة الدولتين في مواكبة التطورات العالمية، وتقديم حلول مالية أكثر تطورًا. فهذه العملات من شأنها أن تقلل من التكاليف التشغيلية المرتبطة بطباعة النقد وتداوله، وتُسرّع المعاملات المالية، كما تسهم في تعزيز الشفافية والرقابة، مما يساعد على مكافحة الفساد وغسيل الأموال.
مع ذلك، لا تخلو هذه الخطوة من تحديات. فهناك مخاوف حقيقية تتعلق بالخصوصية، وإمكانية تتبع كل عملية مالية تتم باستخدام هذه العملات. كما أن تبنّي التكنولوجيا الرقمية بهذا الشكل يتطلب بنية تحتية قوية، وثقة عالية من المستخدمين، بالإضافة إلى إعادة تعريف دور البنوك التجارية التي قد تتأثر مكانتها في حال تحوّل الجمهور للتعامل مباشرة مع العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي.
على الصعيد الدولي، تسير الصين بخطى متقدمة في تطوير «اليوان الرقمي»، حيث بدأ الاختبار الفعلي منذ عام 2020، بينما يعمل البنك المركزي الأوروبي على تطوير «اليورو الرقمي» المتوقع طرحه تجريبيًا في 2026. كل هذه التطورات تعكس سباقًا عالميًا نحو مستقبل جديد للنقود، لم تعد فيه الورقة النقدية الوسيلة الوحيدة للتعامل المالي.
في هذا السياق، يمثل الريال الرقمي والدرهم الرقمي محاولة استراتيجية من دول الخليج لضمان موضع قدم في النظام المالي العالمي الجديد.
أما عن تأثير التوجه نحو العملات الرقمية الحكومية على الشركات وعالم الأعمال، تحمل هذه العملات الرقمية فرصًا واعدة. فالشركات، خاصة العاملة في التجارة الإلكترونية أو التي تتعامل عبر الحدود، يمكنها الاستفادة من تسريع عمليات التحصيل والمدفوعات، وخفض رسوم التحويلات البنكية، وتقليل الاعتماد على الوسطاء الماليين. كما تتيح العملات الرقمية تسويات مالية فورية بين الموردين والعملاء، مما يحسن من تدفقات السيولة ويعزز القدرة التنافسية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تفتح هذه العملات آفاقًا جديدة في العقود الذكية والمدفوعات الآلية، حيث تُربط المعاملات التجارية بشروط مبرمجة تُنفذ تلقائيًا عند تحققها، ما يقلل من الأخطاء البشرية ويزيد من الكفاءة التشغيلية. الشركات العاملة في التكنولوجيا المالية، واللوجستيات، والسياحة، وحتى سلاسل التجزئة، ستكون من أبرز المستفيدين من هذا التحول، لا سيما في بيئة تنظيمية واضحة وآمنة.
وهكذا، فإن العملات الرقمية للبنوك المركزية لا تُمثل مجرد نقلة تقنية، بل هي بنية تحتية جديدة يمكن أن تعيد تشكيل بيئة الأعمال بأكملها، وتُسهم في بناء اقتصاد رقمي أكثر مرونة، عدالة، واستدامة.