د. محمد بن إبراهيم الملحم
من الواضح أني سأتحدث هنا عن المسلسل الرمضاني «مسلسل شارع الأعشى»، ولكن سوف أؤجل تفسير سبب تسميتي مقالتي هذه بهذا العنوان بـ «أل» التعريف حصراً حتى يحين أوانه، وأبدأ حديثي حول ما ينتابني عن مثل هذا النوع من المسلسلات، فهناك ما يشدني للحديث عنها؛ ذلك أنها تقدم واقعنا الماضي الذي كنت أحد شهوده، ولذلك قد يستفزني كما يستفز غيري أن ترد في هذه المسلسلات هفوات مكشوفة في العمل الدرامي لا تعبر عن ذلك العصر، وجدير بالذكر أن الفن تعبير راق عن واقع الإنسان وتطلعاته ومستقبله وكذلك عن ماضيه، وهذا السرد للماضي هو ليس فقط حالة من النوستالجيا التي تداعب مشاعر العاطفة والحنين للماضي فقط، وإنما هو أكثر من ذلك إذ يعبر عن الدروس المستفادة من الحالة التاريخية التي عايشها جيل سابق ليفيد منها جيل معاصر للعمل الفني، وإن هذا الحماس لدي في التعليق على مثل هذه المسلسلات مع أني لا أعرف سببه، بيد أني أجزم أن هناك آلافاً وربما ملايين يشاركونني نفس الحماس بصيغ ونماذج مختلفة، ذلك أننا جميعاً نشترك في كوننا ننتمي إلى ذلك الزمن وهو انتماء لا يختلف أبداً عن الانتماء المكاني وما فيه من حنين وشوق وتعلق بالأرض والطبيعة والبيئة والأمكنة التي عاش فيها الإنسان طفلاً ثم فتى يافعاً ثم شابا وترعرع حتى كبر، فكذلك الزمن الذي يحتضن هذا الإنسان عبر مراحل حياته يبعث فيه نفس مشاعر المكان بل هو ما يؤكد أثر المكان ويجعل له قيمة.
سبق لي أن علقت على مسلسل «خيوط المعازيب» الذي تناول جانباً من الحياة الأحسائية في وقت سابق، ووضحت في تعليقي ذاك كيف أن المسلسل لم يوفق في كثير من محاولاته لتصوير وتجسيد تلك الفترة الزمنية بنجاح، ولا ينطلق التعليق من مجرد حب النقد أو عدم محبة العمل ولكنه على العكس ينطلق من الانتماء للعمل والشغف به كعمل مهم يحمل في طياته انتماءات لي بشكل أو بآخر، الأمر الذي يجعل ما أقدمه من تعليق عليه ينطلق من رغبة جامحة أن يرتقي إلى مستوى أفضل ليصل إلى الصورة التي تلتقي مع توقعاتنا كأناس عاصروا تلك الفترة وعايشوها، وهذا ما ينطبق أيضاً على موقفي من مسلسل «شارع الأعشى»، حيث حاول أن يقدم لنا صورة من فترة زمنية معينة لنتعايش مع تلك الصورة ونتذكر بها حياة سالفة، كما أن الجيل الجديد يدخل معنا في جو تلك اللحظات التي ربما روينا له طرفاً منها يوماً ما ولكننا لم نوفق في تصويرها كما قد يفعل مسلسل أو فيلم أو عمل درامي متقن.
لقد وفق المسلسل في عمل ديكور جميل قدم لنا تلك البيوت التي عشنا فيها فترة السبعينات (كما هو هدف المسلسل)، كما قدم أيضاً مجموعة متنوعة من المكونات التي تدعم هذا التصوير المكاني سواء كانت سيارات أو أثاث أو ملابس، كما تمكن المسلسل من استحضار عدد من التعبيرات التي تنقلك إلى تلك اللحظة من الزمن سواء كانت تلك التعبيرات في الحركات والإيماءات والتصرفات أو التعبيرات اللفظية، ومن الواضح أن العمل تم الصرف عليه بشكل جيد وتم العمل عليه باجتهاد، ولكن يبقى لكل عمل نقائصه التي إذا تبينت لأصحابه استطاعوا أن يحسنوا من المستوى في المحاولات القادمة إذا ما هم ساروا على نفس الطريق.
وفي هذا المقالة (وربما في التي بعدها) سأقدم ما لاحظته على هذا المسلسل في جوانب متعددة سواء كانت مرتبطة بالسياق التاريخي أو بقيمة العمل. وسوف أبدأ هنا بالحديث عن سقطات فنية متنوعة في تصوير الفترة التاريخية، فنحن أمام «أبو إبراهيم» الرجل الغني الذي تولى بسهولة شأن هذه المرأة وبناتها، كما أن بناته ينظر إليهن على أنهن من طبقة منعمة، وفي نفس الوقت نجد هذا الرجل يقود سيارة تويوتا كريسيدا تعتبر من مقتنيات ذوي الدخل المحدود، بينما كان الأغنياء في ذلك الوقت يقتنون سيارات أمريكية مثل كاديلاك أو كرايزلر مثلاً، كما أن دهشة الأسرة أمام التلفون عند وصوله إلى المنزل لأول مرة وعدم معرفتهم كيف يتعاملون معه غير مبرر، فإن التلفون موجود منذ الستينات ويعرف الناس التعامل به، ولقد كان الناس يعرفون الهاتف وإن لم يكونوا يقتنونه ويعرفون كيف يتحدثون به فهم يشاهدونه في المكاتب الحكومية مثلاً وفي بعض الشركات والمحلات بل وفي التلفاز، قبل أن ينتشر أكثر ويصبح متاحاً للناس في البيوت بسهولة، وعلى الأقل يمكننا القول إن «أبو إبراهيم» نفسه الرجل المتعلم والتاجر الفاهم يدرك هذا التعامل جيداً، بينما ظهر في ذلك المشهد وكأنه شخص جاهل تماماً بأمر التلفون! وبالتالي فإن ذلك المشهد قدم صورة مبالغ فيها تماماً بل هي أقرب إلى الصورة الكوميدية الساخرة و«السامجة» في نفس الوقت، كما يدهشنا أيضاً وبكل استغراب ترتيب الحصول على الأجهزة فقد تمكن الرجل من شراء تلفزيون ملون ثم يأتي بالمكيف الصحراوي بعده! بينما في واقع الأمر كان المكيف الصحراوي موجودًا قبل التلفزيون الملون، كما أنه أقل سعرًا، فلا يتوقع من شخص مثل «أبو إبراهيم» أن يتأخر في جلب المكيف إلى هذا الحد! هذا وللحديث بقية.
** **
- مدير عام تعليم سابقًا