د. تنيضب الفايدي
ركّز الكاتب خلال عشرين عاماً بالتأليف والكتابة في المجلات والصحف عن منطقة حائل العزيزة، حيث صدر له كتاب (حاتم الطائي.. سيرته وثقافة عصره) وهو كتاب علمي (أي: بالمصادر الموثقة) وترجمه النادي الأدبي بحائل إلى اللغة الإنجليزية واللغة الصينية، كما صدر كتابٌ ضخم عن حائل (حائل.. بصمات التاريخ السياحة المستقبل)، وهو كتاب علمي موثق يحتوي جميع الجوانب من منطقة حائل، الجغرافي والاقتصادي والتاريخي والسياحي وغيرها من الجوانب، وهناك عشرات المقالات العلمية نشرت خلال الفترة ذكرت فيها مدنها وقراها وهجرها وأوديتها وجبالها، فلم أكن مبالغاً إن قلتُ بأن مدينة حائل فريدة من نوعها بين المدن من حيث الحضارات المتعددة، وجمال البيئة الساحرة، والنقوش القديمة الثمودية، وفنون الرسومات الصخرية، فلا يخلو كتاب يتناول تاريخ الجزيرة العربية أو جغرافيتها إلا ويذكر مدينة حائل، فتاريخ منطقة حائل تاريخٌ موغلٌ في القِدم، حيث يمتد إلى عصور ما قبل التاريخ، مروراً بعصر ما قبل الإسلام، والعصور الإسلامية، وتعدّ حائل من مراكز الحضارات القديمة التي عاصرت الآشوريين والبابليين، كما تدل على ذلك الآثار والنقوش القديمة من كتابات ثمودية وغيرها التي تمثل تراثاً تاريخياً سياحياً جذاباً، وقد أكثر شعراء المعلقات من ذكر مواقع متعددة بمنطقة حائل، مما يدلُّ على قِدم حضارتها وشهرتها، مثل امرؤ القيس، وعنترة بن شداد، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم من الشعراء، وقد جعلها موقعها الاستراتيجي دائماً في قلب الأحداث التي مرت بالمنطقة، حيث أُطْلِقَ عليها: مفتاحُ الصحراء، نظراً لكونها المعبر الرئيس للمتجهين شمالاً أو جنوباً في شبه الجزيرة العربية، كما كانت حائل معبراً لجيوش المسلمين الذين اتجهوا شرقاً وغرباً. وقد وهبها الله سبحانه وتعالى الجمال بتكويناتها الجبلية والغطاء النباتي، كما سُميت حائل عروس الشمال، وما ذاك إلا لجمالها الطبيعي الرائع، فقد تميزت منطقة حائل بتنوع مظاهر تضاريسها، فتحتوي على الجبال والهضاب والسهول والأودية والحرات والكثبان الرملية.
ومن أبرز معالم منطقة حائل الجغرافية سلاسل جبل أجا وسلمى، كما تشتمل المنطقة على عدد من الهضاب، أهمها: هضبة الأجفر في الشمال الشرقي، وهضبة الأديرع في الجنوب، وهضبة التيسية في الجهة الشرقية من المنطقة، كما يوجد في المنطقة عدد من الحرات أهمها: حرة إبضة، وحرة فيد، وجزء من حرة خيبر، وحرة فدك، وغيرها، ويمتد في منطقة حائل عدد من الأودية والشعاب، من أهمها: وادي الأديرع الذي تقع عليه مدينة حائل، ووادي العدوة، ووادي الشعبة، ووادي الفهد، ووادي سميراء وغيرها من الأودية.
كما اشتهرت حائل بشهرة أهلها مثل: حاتم الطائي، وأكثم بن صيفي، و عدي بن حاتم رضي الله عنه،، و سفانة بنت حاتم رضي الله عنها، وأوس بن حارثة الطائي رضي الله عنه، وزيد الخير (زيد الخيل) رضي الله عنه، وأبو تمام الطائي، والبحتري. و تضاعفت شهرة حائل بعد مرور درب زبيدة على أرضها، حيث أنشئت العديد من المحطات، فقد بلغ عدد محطات طريق الحج الكوفي في منطقة حائل أكثر من اثنين وعشرين محطة، كما عثرت في حائل عدة مواقع أثرية قديمة، منها ما كشفت، ومنها ما لم يكتشف حتى الآن، ومن أشهر تلك المواقع التاريخية والأثرية في حائل: جبل جانين، جبة، فدك (الحائط)، الشويمس، فيد، توارن، ياطب، وغيرها، ومن تلك المواقع بقعاء، فبقعاء هي مدينة تقع في منطقة حائل، شمال المملكة العربية السعودية، تبعد عن مدينة حائل مسافة 95 كم في شمال شرقها، وتعتبر ثاني مدينة فيها أكبر تجمع سكاني بعد مدينة حائل في منطقة حائل، ونظراً لوجود الماء والزراعة فكانت بقعاء مأهولة بالسكان منذ القِدم، فتاريخها عـريق وقديم، وقد فسّر اسمها لكثرة بقع الخيام البيضاء وسط بيوت الشعر السوداء، وقيل: بسبب لون أرضها، التي على شكل بقع، ففيها اللون الأبيض والأحمر والأسود، وقيل: لاختلاف طبيعة الأرض والتربة.
وقد وردت في بعض المصادر بالنون أي: نقعاء بسبب وجودها في أرض منخفضة ينقع فيها الماء، كما أن أرضها طينية بعد جفاف الماء ينعقد فيها الغبار، فنقول نقعاء حيث وردت كلمة نقعاء العقيق، تقول الخنساء في رثائها لأخيها صخر:
وقولي إن خير بني سليم
وغيرهم بنقعاء العقيق
والعقيق الذي ورد هنا هو وادي العقيق بالطائف، ولا علاقة له بعقيق المدينة المنورة، كما يسميها البعض (الصفاة)، نسبة لأرضها الصخرية، وقد أطلق عليها الشيخ حمد الجاسر (طيبة الاسم) حيث يقول في كتابه «في شمال غرب الجزيرة» (ص597): وكثيراً ما يحاول العرب تغيير أسماء مناهلهم ومواضعهم إذا كانت قبيحة، فبقعاء قرية بقرب حائل تدعى طيبة الاسم. وموقع بقعاء شمال شرق مدينة حائل.
وتعتبر بقعاء من أقدم مواقع الاستيطان حيث يرجع تاريخها إلى قبل الميلاد، فقد عثرت فيه على نماذج كثيرة من البيوت والمنازل القديمة، وهذه البيوت قد تميزت بأنماطها المعمارية، وضيق الشوارع والأزقة وتعرجها لغرض الحماية الأمنية، وإلى هذا الوقت بعض البقايا موجودة والتي تدل طريقة بناء تلك البيوت. حيث كان الطين هو المادة الأساسية بجانب الأحجار والأخشاب.
كما عثرت حول بقعاء الكثير من الرسومات الصخرية والنقوش الثمودية، خاصةً في جنوبها الشرقي في موقع الجرباء وفي شعيب البويب، يرجع تاريخها إلى ذلك الحقب من الزمن، فقد أشار المحللون بأن تاريخها يعود إلى ما بين القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي.
أما العصر الإسلامي فلا تخلو بقعاء من حوادث، فبقعاء هو الموضع الذي خرج إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقتال أهل الردة، كما عسكر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بجيش القادسية بالقرب من بقعاء في سنة 14هـ في زمن عمر رضي الله عنه، حيث أمره الخليفة الثاني بالنزول في شرقي بقعاء أي: في زرود، كما ذكر ذلك الطبري حيث يقول: «إن عمر أمر سعد بن وقاص بالسير، وقال: وإذا انتهيت إلى زرود فانزل بها..».. وفاء الوفا للسمهودي (4-72).
كما أصبحت بقعاء ممراً مهماً ومحطة تاريخية في درب زبيدة يستريح بها الحجاج والقوافل التجارية بين العراق وحائل.
ولقِدم تاريخ بقعاء فقد ذكرها أكثر المؤرخين مثل الحموي والهمداني والإسكندري والبكري والفيروزآبادي والسمهودي وغيرهم من المؤرخين، فيقول الحموي في كتابه معجم البلدان (1/558): بقعاء اسم قرية من قرى اليمامة، لا تدخله الألف واللام.
كما توقف بها كثيرٌ من الرحالة المستشرقين مثل: الرحالة الإيطالي كارلو غوارماني، والرحالة الفرنسي هوبر وقد زار بقعاء مرتين، والليدي آن بلنت و يوليوس أويتنج، يقول هوبر عن بقعاء:» تقع بقعاء بشكل جميل جداً في حوض شاسع من الحجر الأبيض الممتد من الشرق إلى الغرب، وتتألف القرية من مجموعتين من المنازل: المجموعة الشرقية وتدعى الصهيبي، والأخرى الغربية وتدعى اللويمي».
ويقول يوليوس أويتنج عن بقعاء ( آثار منطقة حائل (ص66) : حينما صعدنا التل، شاهدنا فجأة في الواحة المقابلة بحيرة بيضاء كبيرة تحيط بها أشجار النخيل السوداء وتتوسطها حقول الذرة وآبار شبه متهدمه ومجموعة من المنازل المتناثرة، وبرج للمراقبة بني فوق تل صخري»، ورسم أويتنج عدداً من الصور عن بقعاء تدل على جمالها.
كما جاء اسم بقعاء في الأدب كثيراً، يقول جرير في ديوانه (ص252):
وقد كان في بقعاء ريّ لشائكم
وتلعةُ والجوفاءُ يجري غديرُها
وقد ذكر امرؤ القيس في البيت الثاني من معلقته عدداً من مواقع حائل، وهذا يدلّ على أهمية حائل وشهرتها، ومنها بقعاء ، يقول امرؤ القيس:
قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فاضحى يسح الماء حول كتيفة
يكب على الاذقان دوح الكنهل
أبت أجا أن تُسلِمَ اليوم جارها
فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
تبيت لَبُوني بالقريّة آمِناً
وأسرّحها غباً بأكنافِ حائل
سقط اللوى، هي الآن بقعاء وتبعد عن حائل مسافه 90 كم، وكتيفة هي قرية بالقرب من سميراء على مسافة 170عن حائل.
يقول الحموي ( معجم البلدان 1-558): «تزوجت امرأة من بني عبس في بني أسد ونقلها زوجها إلى ماء لهم يقال له لينة، وهو موصوف بالعذوبة والطيب، وكان زوجها عنّيناً ففركته واجتوت الماء، فاختلعت منه وتزوجها رجل من أهل بقعاء فأرضاها فقالت:
فمن يُهدِ لي من ماء بقعاءَ شربةً
فإنّ له من ماء لينةَ أربعا
لقد زادني وَجْداً بقعاء أنني
وجدت مطايانا بلينةَ ظُلَّعا
فمن مُبْلغٌ تِرْبيَّ بالرمل أنني
بكيتُ، فلم أترك لعينيَّ مَدْمعا
وقال مُخَيّس بن أرطاة الأعرجي لرجل من بني حنيفة يقال يحيى، وكــان أبصر امرأة في قرية من قرى اليمامة يقال لها بقعـــاء:
عرضت نصيحة مني ليحيى
فقال غَشَتني والنُّصحُ مُرٌّ
وما بي أن أكون أعيبُ يحيى
ويحيى طاهرُ الأثواب بَرٌّ
ولكن قد أتاني أن يحيى
يقال عليه في بقعاءَ شَرٌّ
فقلتُ له: تجنَّبْ كلَّ شيء
يُعاب عليك، إن الحرَّ حرٌّ
مع كلّ ما تقدم من معلومات فإن أجمل ما في حائل شعبها الطيب الخلوق، فخلال تردد الكاتب منذ أكثر من عقدين من الزمن على حائل لم يجد من أهلها إلا البرّ والألفة والمحبة، والخلق الحسن .. ومن زار حائل أو يزورها يشعر بنفس الإحساس الذي أحسّه الكاتب في زيارته لها، بل يشعر أن ذلك لا يقتصر على أهلها فقط، بل يحسّ بأن هناك علاقة تربطه بجبالها وأوديتها وأرضها عموماً.
وأخيراً فإن جِمال بقعاء وحسنها التي ذكرها الرحالة لم يؤثر عليها مرور ذلك الزمن، بل هي جميلة؛ حيث تجمع بين العمق التاريخي وجمال الحاضر والمستقبل، إن بقعاء بقعة بل درّة يعتز بها أهلها.