د. محمد بن إبراهيم الملحم
استعرضت فيما سبق بعض التناقضات التي تحدث في رمضان فقط، واستكمل اليوم مزيدا من هذه التناقضات، فنجد تناقضا ظاهريا بل هو قد يكون تناقضا جوهريا في واقع الأمر، وهو تناقض مشهور جدا يتمثل في كون الصوم إذ يهدف إلى تحسين صحة الإنسان من خلال قلة الأكل فإن واقع الناس أن أكلهم يزيد في رمضان عن غيره، وأحيانا لا تكون هذه الزيادة حقيقية بل زيادة ظاهرية، متمثلا ذلك فيما تراه من كثرة الأطباق وتنوعها في سفرة الإفطار بينما لا يتم أكلها كلها وإنما قد يكتفى بقليل من هذا وقليل من ذاك ليشعر الواحد بعدها بالشبع دون أن يستهلك نصف كمية ما هو موجود أمامه، ومع أن هذه التجربة يعيشها الناس يوميا لكنهم ماضون في سلوكهم فلم يألفوا قط في حياتهم أن تكون سفرة إفطار رمضان محدودة الكميات أو الأنواع! وهذا يرشدنا أنها حالة نفسية وممارسة اجتماعية أكثر منها حاجة جسدية حقيقية نتيجة الصيام، وهي واحدة من أكثر التناقضات الرمضانية حضورا وأعلاها صوتا وأوسعها انتشارا عبر أكثر الثقافات.
من تناقضات رمضان التي ظهرت أخيرا امتلاء الأسواق مساء بفرص التسلية وتقديم عدد من المتاجر أو مجمعات الأسواق أو «المولات» ما يشد المشتري من «فعاليات» بينما يفترض أن الشهر الكريم شهر عبادة وليس شهر شراء وتجديد الأثاث أو تغيير البلاط أو تحسين وصيانة المنزل، ولا ينبغي أن يتجاوز التسوق في رمضان ما يحقق احتياجات التجمل الشخصي للعيد، وفي نفس السياق فإن الفعاليات التي تنطلق هنا وهناك في ليالي رمضان سواء هدفت لتشجيع التسوق أو هي فعاليات ترفيهية، تسهم في تكريس فكرة أن ليالي رمضان هي للترويح عن النفس! بينما لو تأملنا خلاصة المحتوى الشرعي فيما يرشد إليه الدين حول أوقات رمضان فإنها تشير إلى أن النهار وقت صوم والليل وقت عبادة تتمثل في الصلاة وقراءة القرآن، بينما اليوم تجد من يقرأون ختمة القرآن يجتهدون في ذلك أثناء النهار في المساجد بينما هي في الأصل سنة «ليلية» بامتياز، ألم أقل لكم إن رمضاننا شهر تناقضات..
ومن التناقضات في رمضان أنك ترى المساجد ممتلئة بالمصلين وخاصة في صلاة التراويح والمنطق يقول إن هذا الإقبال على الصلاة يقتضي أن هذه الصلاة سترفع معنويات المصلين الروحية سواء منهم من لم يكن يصلي في المسجد إطلاقا من قبل أو ذلك الذي لم يكن يحافظ على الصلاة في المسجد وبالتالي فإن هذه الصلاة المستمرة في المسجد (ومعها الصيام) وروحانية الشهر الكريم وقراءة القرآن، كلها سترفع من معنوياته الروحية مما يترتب عليه أن هذه الظاهرة لن تشاهد في بداية رمضان فقط، وإنما ستزيد بشكل مطرد فيما يتلو ذلك من أيام وناتجه زيادة أعداد المصلين ولكنما الواقع لا يقول ذلك! بل على العكس ليظهر لنا تناقضا رمضانيا عجيبا تجد فيه المساجد في منتصف رمضان أقل منها في أوله وعدد المصلين في آخر رمضان أقل منها في منتصفه فالعدد ينقص شيئا فشيئا في تناقض رمضاني هو من أعجب العجائب، وماذا يقول لنا ذلك؟! ومع أني لا أملك إجابة عن دراسة ولكني أتوقع بتحليل تأملي يسير أن أغلب هؤلاء المصلين لم يأتوا طلبا لروحانية شهر رمضان وفضيلة المسجد ولم يستهدفوا أن تتحسن دافعيتهم الدينية ويرتقي حماسهم التعبدي، وإنما أتوا إلى المساجد بداية الشهر استجابة لفضول التحول من روتين حياة الشهور العادية إلى أجواء الشهر الجديد للعيش فيها والدخول في جو رمضان الاجتماعي ومشاعره الدينية الفياضة، وكذلك الاستجابة لعادة أكثر الناس في هذا الحضور السنوي مع بدء الشهر، كما أن طائفة منهم يرضون أنفسهم بالاستماع إلى أصوات بعض الائمة ذوي الأصوات الحسنة، فإذا مضى نصف الشهر داخلهم ملل الاستماع وأسأمتهم الألفة فقل اهتمامهم شيئا فشيئا حتى تجد حماسهم آخر الشهر في أدنى المستويات، ولعل هذا التحليل يكشف لنا شيئا من إشكاليات التناقضات المنطقية الرمضانية ذلك أنها تتقاطع مع إشكاليات الفهم الاجتماعي للموقف الديني أو الاجتماعي أو الثقافي فإذن هي نوع من التشكل الثقافي للتفضيلات الشخصية للإنسان ربما تصنعها العادة وربما تصنعها الظواهر الاجتماعية ولكنها في النهاية تتجلى لنا في صورة تناقضات رمضانية نرصدها رمضان بعد رمضان ونتعجب منها كل سنة؟!
** **
- مدير عام تعليم سابقا