د. تنيضب الفايدي
كما تعرضت كذلك خلال فترات من تاريخها لهجوم الأعراب، وبعد ما أساءت أحوالها المعيشية عقب امتناع الخلافة أو عجزها عن دفع الأعطيات المعتادة لهذه القبائل تعرضت مدينة فيد بنفسها الخراب رغم عدم وجود حجاج فيها في سنة 515هـ - 1122م حيث دخلوا في مدينة فيد بعد كسر أبوابها وأخذوا بعض ممتلكات أهلها.
وقطعهم لطريق الحج سواءً كانوا يفعلونه من أجل السلب أو بإيعاز من أحد الخلفاء الفاطميين وغيرهم بقصد التأثير على دولة العباسيين، هذه الأحداث أثرت على استقرار وازدهار فيد وتسببت في ضعفها وهجرة كثير من سكانها وانتقالهم إلى مدن أكثر أماناً.
ولهذا نجد صفة فيد تختلف عند الرحالة ممن زاروها وكتبوا عنها فبعضهم يصفها بالكبيرة العامرة بالسكان وبعضهم بالقرية الصغيرة. وبدأت فيد تفقد أهميتها مع تغير وضعف درب زبيدة والذي هجره الحجاج خلال فترات تاريخية.
ويقال: إن آخر رحلة حج مرت بفيد في عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله- بحدود عام 1362هـ. ومنذ ذلك العهد تغيرت طرق وكيفية المواصلات كلياً بين العراق والحجاز.
فيد من أشهر محطات درب زبيدة
فيد من أشهر محطات درب زبيدة في منطقة حائل، بينه وبين الأجفر حوالي ثلاثين ميلاً، ونظراً لموقعها الاستراتيجي في وسط الجزيرة العربية حيث تقع في منتصف المسافة بين الكوفة ومكة المكرمة، فقد كان أهلها استغل هذه الأهمية للتعايش مع الحجاج والمسافرين وتقديم ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب وحوائج أخرى، كما كان الحجاج يتركون بعض الأشياء لدى أهل فيد ثم يأخذونها وقت العودة. وإلى القارئ محطات درب زبيدة، ومنها فيد:
الكوفة، القادسية، العذيب، وادي السباع، المغيثة، مسجد سعد، القرعاء، الطرف، واقصة، القبيات، العقبة، الحلجاء (القاع أول محطة بالحدود السعودية)، الجريسي، زبالا، التنانير،الشقوق، ردان، البطان, المحمية، الثعلبة، الغميس، الخزيمة، بطن الأغر، الأجفر، القرائن، فيد، القرنتين، توز، الفحيمة، سميراء، العباسية، الحاجر، قرورى، معدن النقرة، السمط، مغيثة الماوان، أريمة، الربذة، الروثة، السليلة، اضبة، شرورى، العمق، معدن بني سليم، عقبة الكراع، الكرانة، أفاعية، الكبوانة، المسلح، القصر، غمرة، أوطاس، ذات عرق، غمر، بستان بني عامر، مشاش، مكة المكرمة.
وقد ذكر الحربي فيدا في بيان ذكر المنازل على طريق مكة، وهي من أبيات أحمد بن عمرو:
ثم بإذن الله جئنا فَيْدا
قبيل وجه الصبح أو بُعيدا
ورجَّع الحادون: هيداً هيدا
فظلت العيس تميد ميدا
تخطو على هيبتها رويدا
تحمل غراء، تفيد فيدا
تفكُّ من فقر الفقير القيدا
تدفع من خطب الدهور الكيدا
ترى وجوه البر طرّاً صيدا
طوبى، وطوبى لكِ يا زُبَيدا
ويقول الجزيري عن فيد: «وبتنا بوادي الكروش على غيرِ ماءٍ، ثم أسرينا منه وأصبحنا على فيْد يوم الاثنين، وهو حصن كبير ببرجٍ مشرف في بسيط من الأرض، ممتد حوله ربض، يطوف به سور عتيق البنيان، معمور بسكان من الأعراب، يتعيشون مع الحاج في التجارات والمبايعات، وغير ذلك من المرافق، وهناك يترك الحاج بعض زادهم إعداداً للرجوع؛ لأنه نصف الطريق من بغداد إلى مكة على المدينة أو أقل بيسير، ولهم بها معارف، يتركون أزودتهم عندهم، ومنها إلى الكوفة اثني عشر يوماً في طريق سهلة طيبة، والمياه بها موجودة في مصانع كثيرة، وعادة أمير الحاج العراقي أن يدخل إلى فيد بطبلٍ وزينة وتعبئة وأُبَّهة إرهاباً للمجتمعين بها من الأعراب، لئلا يداخلهم الطمع فيهم، والماء بهذا الموضع كثير في آبار، تمدها عيون تحت الأرض، ووجد الحج فيها مصنعاً قد اجتمع الماء فيه من المطر، وفي هذا المحل يمتار الحاج من الأغنام والأعسال واللبن، ويشترون من الجمال ما يحتاجون إليه».
وتعدّ فيد مدينة كبيرة نشأت وتطورت بفضل موقعها المميز في منتصف طريق بين مكة والمدينة في الحجاز من جهة والكوفة وبغداد من جهة أخرى، وهن حواضر علمية معروفة، وللموقع أثره في إفادة هذه المدينة من حيث: سهولة اتصال أهلها بعلماء هذه الحواضر والاستفادة منهم، فضلاً عن استفادتهم من مرور الكثير من العلماء بفيد أثناء تحركاتهم بين العراق والحجاز، حيث نشطت هذه التحركات العلمية بين هذين القطرين خصوصاً في ظل الازدهار العلمي الذي شهدته عاصمة الخلافة العباسية بغداد، وعندما أصبحت على طريق درب زبيدة ازدادت مكانتها العلمية وتدل الآثار الباقية في الموقع الأثري على أن فيد كانت على مستوى متقدم من العمارة والتخطيط ويعد قصر خراش من المعالم الرئيسية في الموقع، وهو قصر مستطيل الشكل مبني بحجر البازلت يضم في ركنه الشمالي الشرقي قلعة مربعة الشكل وإلى الشمال من القصر توجد مجموعة من المباني المحددة بما يشبه القاعات والأفنية وبعض الغرف المترابطة مع بعضها بعضا، وهذا الجزء يعد بمثابة قلب مدينة فيد لما يضمه من كثافة معمارية.
الآبار والعيون والمنشآت المائية وبعض الآثار الأخرى في فيد
كانت فيد تتمتع بعيون وآبار كثيرة، وكذلك البرك والأحواض التي بنتها الدولة العباسية، ذكر الحربي عدداً من الآبار والعيون في فيد إبان العصر العباسي حيث يقول: «وبها ثلاث عيون، وآبار ليست بالعذبة، فمن خيارها بئر تعرف بمسجد الملاقين، وهي بئر عبد الصمد، وبئر الفضل بن الربيع، وبئر عمر بن فرج، وبئر عمران بن عمر، وغيرها، وذكر السمهودي فقال: «وبفيد آبار كثيرة قصيرة الرشا».
وقد أشار البشاري المقدسي فقال: «وبها عيون وآبار وبرك عذيبية وبالبعد ماء حلو». كما أشار ابن جبير إلى وجود أحواض خاصة لتجميع مياه الأمطار للحجاج في مدينة فيد بشكل متواصل. وأشار الحربي أيضاً إلى وجود آبار أخرى قريبة من فيد فقال: «وعلى مقدار ميل من فيد على الطريق يسرة آبار كثيرة، ماؤها طيب».
الحصون والقصور
توجد في فيد بعض الحصون والقصور، وقد ذكر ذلك عددٌ من المؤرخين والرحالة، حيث ذكر الحربي وقد عاش في القرن الثالث الهجري: «وبفيد قصر للسلطان وبساتين وحصون وبعضها خربة». وقد استمر الخراب حتى لم يبق في القرن الرابع الهجري إلا حصنان فقط. وقال البشاري وهو من القرن الرابع الهجري: «فيد مدينة صغيرة، ذات حصنين». وبقايا هذا الحصن من أكبر المعالم الأثرية في فيد.
المنازل والأسواق
نظراً لأن فيد إحدى المحطات في طريق الحج الكوفي، وكذا الاستقرار وتوفير الأمن، كل ذلك ساعدت في بناء المنازل والأسواق في فيد، وقد أشار إلى ذلك كلٌّ من الاصطخري وابن حوقل حيث قالا عن فيد: «ولا بين المدينة والعراق مكان يستقل بالعمارة والأهل جميع السنة مثل فيد». أما الأسواق التجارية فكانت منتشرة في فيد لكثرة المارين منها، خاصة على طريق الحج الكوفي، فقد ذكر ذلك ابن خرداذبة فيقول: «وبفيد منبر وأسواق».
وهكذا تعتبر فيد من أكبر المواقع السياحية على درب زبيدة، كما أعلن ذلك مؤخراً، بعد أن حظيت العناية من قبل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.
بعض المراجع
البلدان لليعقوبي، المسالك والممالك لابن خرداذبة، نزهة المشتاق للإدريسي، الروض المعطار للحميري، الروض الأنف للسهيلي، وفاء الوفا للسمهودي، أحسن التقاسيم للمقدسي، عمدة الأخبار للعباسي، تاريخ الأمم للطبري، المناسك للحربي، الدرر للجزيري، مظاهر الحضارة للسنيدي، المعجم الجغرافي لـ: حمد الجاسر، مدينة فيد للسنيدي، الملامح الجغرافية لـ: سيد بكر، صيد الذاكرة من آثار الوطن الحبيب قائمة أو داثرة للدكتور تنيضب الفايدي، تاريخ معالم المدينة للخياري، حائل بصمات التاريخ السياحة المستقبل للدكتور تنيضب الفايدي.