د. تنيضب الفايدي
تعتبر مدينة فيد إحدى الأمكنة الأثرية التاريخية، إذ تختزن جبالها نقوشاً تاريخية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، كما اشتهرت لكونها محطة رئيسية في درب زبيدة حيث تقع في منتصف الطريق بين مكة وبغداد، تقع فيد جنوب شرق مدينة حائل، وهي على وادي ساح (أبو شنان) أحد روافد وادي (أبو الكروش)، وقد ربط بعضهم فيد بجبلي أجا وسلمى، ومن أبرز ذلك ما ورد في شعر زهير بن أبي سلمى الذي قال:
ثم استمروا وقالوا إن مشربكم
ماء بشرقي سلمى فيد أو ركك
ولشهرة فيد فقد ذكرها جميع المؤرخين والرحالة حيث ذكر اليعقوبي في تحديد موقع فيد فقال: «وهي في سفح جبلهم (أي جبل طيء) المعروف بسلمى»، ويقول البكري: «كان فيد فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية، فلما قدم زيد الخيل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أقطعه فيد»، وقال ابن هشام اللخمي: «فيد قرية بين مكة والكوفة». ومنهم من أشار إلى وقوعها في طريق الحج مع التركيز على كونها في منتصفه حيث يقول ابن خرداذبة: «فيد وهي نصف الطريق، فيها عين تجري وبفيد منبر وأسواق وبرك وعيون جارية». وقال الإدريسي: «فيد من بلاد البادية، وهي في منتصف الطريق ما بين بغداد ومكة». ويقول ابن رستة: «وهو منزل فيه قناة يزرع عليها وهي كثيرة الأهل، وفيها ينزل عامل الطريق، وفيها مسجد جامع، وهو نصف الطريق والبلد بطيء والمتعشى القرائن على 20 ميلاً) ويقول الحميري: «مدينة فيد نصف الطريق بين مكة وبغداد، وأهلها طيء، وهي من أصل جبلهم المعروف بسلمى».
وفيد بلدة معروفة ذات التاريخ القديم ولا تكاد تخلو معاجم البلدان ولا كتب رحلات الحج ولا أسماء مدن العرب من ذكرها، كانت قديماً أشهر وأكبر منها اليوم، وكانت في فترة من فترات التاريخ الإسلامي إحدى ولايات الدولة الإسلامية وعاصمة طريق الحج الكوفي المعروف تاريخياً باسم درب زبيدة (أحد أشهر الطرق القديمة) ويتبعها منطقة الجبلين وشمالي نجد ككلّ. ويعدُّ العصر العباسي العصر الذهبي لمدينة فيد، حيث بلغت من الضخامة العمرانية والمكانة التاريخية مبلغاً أصبحت فيه مضرباً للمثل في ذلك، وتدفع زكاة قبائل المنطقة مثل طيء وبني أسد وغطفان وبنى اليربوع وغيرهم إلى ولاة فيد.
ويرجع شهرة فيد إلى ثلاثة أمور: وهي اقترانها بالصحابي زيد الخير، وكذلك لأن أمير المؤمنين الفاروق -رضي الله عنه- قد حمى مراعي فيد فيما عرف بحمى فيد وخصص لخيول وإبل الإسلام، ثم زاد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في الحمى بعد أن زادت أعداد هذه الإبل في عهده، والسبب الأهم وقوعها في منتصف طريق زبيدة وكونها أهم محطاته، وفيها يستريح الحجاج ويقيم بها وإلى طريق الحج، بالإضافة إلى وقوعها على الطريق الرابط بين وسط الجزيرة وشمالها وكانت من محطة رئيسية عليه، وغير ذلك من الطرق القديمة. وقد أتاحت هذه الميزة فرصة لممارسة نشاط تجاري ملموس فازدهرت التجارة وانتشرت الأسواق، وتنوعت السلع.
واسم فيد قديم جاهلي، وقيل سميت نسبة إلى فيد بن حام، وقيل: سميت فيد؛ لأن من حولها يستفيد منها، يقول شاعر واصفاً الطريق بين نجد وشمال الجزيرة:
وامسوا حلالاً لا يفرق بينهم
على كل ماء بين فيد وساجر
ساجر ماء قديم يقع في بطن السر في وسط نجد أقيمت فيه بلدة الآن، وإبان العصر الذي سبق ظهور الإسلام كانت قبائل أسد وقبيلة طيء هما أصل سكان مدينة فيد، ويؤكد البكري ذلك حيث يقول: «كان فيد فلاة من الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية». وقد عرضت قبائل أسد وطيء أنفسها على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عندما مرّ بفيد في طريقه إلى العراق، واستمرت هذه القبائل تسكن في فيد حتى عصر الخليفة العباسي، ولكن بعد القرن الثالث الهجري أصبحت فيد للطائيين فقط، كما تذكر ذلك المصادر، وقد ذهب الحموي أنها كانت مقسمة في القرن الرابع الهجري إلى أثلاث بين بعض القبائل حيث يقول: (فيد بطيء لبني نبهان، وبه أخلاط من أسد، همدان وغيرهم). وقال حمد الجاسر: أن بني نبهان بقوا هم أهل فيد إلى القرن الخامس الهجري، وربما يمتد إلى ما بعد هذا القرن، لكن المصادر لاتسعف في معرفة ذلك».
وكان لأهل فيد دور كبير في انتشار الإسلام ومساندته ومناصرته، خاصةً وقت الردة، وجاء وفد طيء في السنة العاشرة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة راغباً الدخول في الإسلام، ذكر ذلك ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى حيث يقول: «قدم وفد طيء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلاً رأسهم وسيدهم زيد الخير وهو زيد الخيل بن مهلهل بن بني نبهان، فدخلوا المدينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فعقدوا رواحلهم بفناء المسجد ثم دخلوا فدنوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشاً، وسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد الخير».
وقد أكّد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على سيادة زيد الخير -رضي الله عنه- لقومه بعد أن أعجب بشخصيته أيما إعجاب، فرفع مكانته وأقطعه فيداً وما حولها بعد أن زوده بكتاب ينص على ذلك. ولكن زيداً لم يصل إلى بلاده حيث توفي في الطريق بعد أن أصابته الحمى.
وبسبب مواقفهم في نصرة الدولة الإسلامية بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت لفيد مكانة كبيرة عند الخلفاء، ولذا أقام فيها كثير من الصحابة والخلفاء والوزراء وقادة الجند حيث نزل خالد بن الوليد بفيد بعد أن أرسله الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لفتح العراق، كما أقام سعد بن أبي وقاص وجيشه في فيد شهراً كاملاً عندما كلفه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالتحرك نحو العراق لمواصلة الفتوحات الإسلامية، وعندما خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من المدينة إلى العراق نزل بفيد برهة من الوقت أبدت خلالها بنو أسد وطيء رغبتهما في الانضمام إليه.
وأدّى وقوع فيد في طريق الحج إلى زيادة الحركة التسويقية وأيضاً العلمية، وقد نسب إلى فيد جملة من أهل العلم يقال لهم الفيدي (نسبةً إلى فيد)، منهم: محمد بن جعفر بن أبي مواتية الكلبي العلاف، وهو من المهتمين بالحديث النبوي الشريف سماعاً ورواية حيث عرف بالفيدي، ومنهم محمد بن يحيى بن الضريس الكوفي الفيدي، وقال السمعاني: «ومن أهل الكوفة نزل فيداً، وإنما قيل له الفيدي لنزوله بها».
كما استوطن عددٌ من العلماء الشهير في فيد، منهم: محمد بن الطفيل بن مالك النخعي الكوفي، وهو من العلماء المحدثين، وشاهدت فيد بعض الأحداث الدامية، ومنها هجوم القرامطة عليها بقصد السيطرة على طريق الحج واستبسال أهلها في الدفاع عنها. ففي أواخر القرن الثالث الهجري ظهرت القرامطة في شرق شبه الجزيرة العربية، وبدأت تهاجم على سالكي هذا الطريق للضغط على الخلافة العباسية وزعزعة ثقة المسلمين فيها، ولما كانت فيد من أهم المحطات على هذا الطريق، كان هجوم القرامطة على مدينة فيد أكثر، بل حاولوا السيطرة عليها كاملاً.