عبدالوهاب الفايز
الآن، وبعد تطور النظرة الإيجابية للقطاع وتوسع أنشطته في جميع مناطق المملكة، وبعد تطور إيراداته المالية من التبرعات والاستثمارات.. تتعزز الشواهد على أرض الواقع المؤكدة أن القطاع غير الربحي السعودي يتجه لموقعه الرئيس في الاقتصاد الوطني، شواهد تؤكد أن فلسفة ومنهج الاقتصاد الاجتماعي مسار المستقبل المهم والواعد الذي سيكون له الدور الكبير في احتواء الاختلالات الهيكلية الناتجة عن التخصيص واقتصاد السوق، وقطاع قادر على توفير آليات الدعم والمساندة للحكومة لاستيعاب التحديات والمخاطر النفسية والاجتماعية التي تفرضها ظروف الحياة اليومية المعاصرة.
في النسخة الرابعة الحديثة من تقرير «آفاق القطاع غير الربحي» الصادر عن مؤسسة الملك خالد، برز إنجاز نوعي للقطاع غير الربحي في المملكة، ويؤكد نجاح مستهدفات رؤية المملكة 2030 لتمكين وتنمية هذا القطاع الحيوي. ومع ذلك، فإن هذا النجاح الكبير لم ينل الاهتمام الإعلامي الكافي، ولم يتم تسليط الضوء عليه بالقدر الذي يستحقه، ويوضح دلالاته.
أحد أهم المؤشرات التي أبرزها التقرير هو تجاوز مساهمة القطاع غير الربحي حاجز 100 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي، وبناء على هذه الإنجازات، يتوقع تحقيق المستهدف الذي وضعته الرؤية لمساهمة القطاع وهي 5 % من الناتج المحلي في عام 2028م، أي قبل عامين من الموعد المحدد. هذا النمو يعكس التحولات الجذرية التي يشهدها القطاع، التي تعزز دوره كمحرك اقتصادي واجتماعي رئيس في المملكة.
ومما نستخلصه من التقرير ما يخص حجم الأصول في الأوقاف. هذه بمنزلة الصندوق السيادي للقطاع غير الربحي. وصلت قيمة الأوقاف في المملكة إلى 1.7 مليار ريال، وحجم العائد على الاستثمار في الأوقاف يفتح المجال أمام استثمارات مستدامة لدعم الصحة، والتعليم، والإسكان، والخدمات الإنسانية والاجتماعية. طبعا تحقيق أقصى استفادة من هذه الموارد يتطلب تعزيز كفاءة إدارة الأوقاف واستثمارها بطرق أكثر ابتكارا وفعالية.
بحسب التقرير، بلغ متوسط النمو السنوي للصناديق الوقفية الاستثمارية 65 % خلال الأعوام الخمسة الماضية، مما يعكس تزايد الاهتمام بتطوير هذا القطاع. كما دعا التقرير إلى تحسين أداء هذه الصناديق عبر مجموعة من المحفزات التي تسهم في تحقيق مستهدف 5 % من الناتج المحلي بحلول 2028م، إلى جانب تبني مبادرات ترفع أصول الصناديق الوقفية حتى تتجاوز 100 مليار ريال، حتى تكون رافدا مستداما لدعم إيرادات القطاع غير الربحي.
أيضا من حجم التبرعات عبر المنصات الرقمية نقف على اهميتها: لقد تأكد أنها نموذج جديد للعطاء المستدام. أحد الجوانب المضيئة في التقرير كان تصدر المساهمات الصغيرة لدعم القطاع الخيري، فقد أظهرت البيانات أن 74 % من التبرعات جاءت من مبالغ صغيرة، بفضل الدور الريادي لمنصة إحسان، التي سهلت عملية التبرع وجعلتها أكثر سهولة ويسرا للمحسنين.
وجاء في التقرير أن عام 2024م، كان عاما متميزا حيث سجلت المنصات الرقمية للتبرعات أداء قياسيا، وقد تجاوز إجمالي التبرعات 15 مليار ريال، تصدرت فيها منصة إحسان المشهد. وبينما شكلت التبرعات الصغيرة (ريال، 10 ريالات، 100 ريال) النسبة الأكبر، بلغت مساهمة كبار المحسنين (أكثر من 100 ألف ريال) نحو 26 % من إجمالي التبرعات، «مما يعكس توازنا صحيا بين العطاء الشعبي والدعم المؤسسي للقطاع»، كما لاحظ معدو التقرير.
ومن أهم الممكنات للقطاع غير الربحي نمو القناعة الاجتماعية بأهمية التطوع، وهذا ساهم في تجاوز المستهدف قبل الموعد بستة أعوام، فقد وصلنا إلى مليون متطوع في عام 2024م، وهو المستهدف المحدد لعام 2030م. هذا النمو السريع مؤشر على تطور وعي و(ثقافة العمل التطوعي) في المجتمع السعودي. وقد أسهم هذا النمو في تعزيز المساهمة الاقتصادية للتطوع، التي وصلت إلى خمسة مليارات ريال.
والجانب المهم الذي اشار اليه أيضا هو النمو الكبير في عدد المنشآت غير الربحية في المملكة، فقد بلغ إجمالي عددها أكثر من 62,000 منظمة بنهاية عام 2024م، مسجلا نموا بنسبة 73 % مقارنة بعام 2022م. ويعود هذا النمو إلى التوسع في إنشاء (الشركات غير الربحية والأوقاف)، مما يعكس اهتماما متزايدا بهذا القطاع الواعد. كما أشار التقرير إلى أن جميع أشكال المنظمات غير الربحية تواصل تحقيق نمو سنوي مطرد بنسبة 57 % منذ أول تقرير عن آفاق القطاع غير الربحي في 2018م، مما يؤكد التحول الكبير الذي يشهده هذا القطاع نحو الاستدامة والابتكار.
توجه القائمون على قيادة وإدارة القطاع لإيجاد المبادرات النوعية لمعالجة تحدي الاستدامة المالية عبر تأسيس الشركات يعد تحولا جذريا يعيد تشكيل القطاع. بهذا الخصوص يبرز التقرير أن إطلاق نظام الشركات الجديد والبدء في تسجيل الشركات غير الربحية ساهم في جعلها الكيان الأبرز في القطاع، تليها الأوقاف. كما أن تحويل أصول حكومية ضخمة في مجالات الصحة والتعليم إلى نماذج تشغيلية غير ربحية يعكس الثقة المتزايدة في النموذج غير الربحي، ودوره في تعزيز الابتكار والكفاءة في هذه القطاعات الحيوية. وأبرزها تحويل جامعة الملك سعود ومستشفى الملك فيصل التخصصي.
الاتجاه إلى تأسيس الشركات غير الربحية هو توجه عالمي متبع للتمكين المالي ساهم في دعم القطاع غير الربحي. الأمر الإيجابي أننا لم نتأخر في تبني ودعم هذا المسار للاستدامة المالية. فالتحول لتمويل منشآت القطاع عبر المساهمات الفردية الصغيرة وتحويل هذه إلى تدفقات مالية بمليارات الريالات في فترة وجيزة يعكس رؤية طموحة واستراتيجية مدروسة، تعزز مكانة القطاع غير الربحي كأحد الركائز الأساسية في التنمية المستدامة.
إن هذه القفزات النوعية التي حققها القطاع غير الربحي تمثل إعادة تعريف لدور العمل الخيري، حيث لم يعد محصورا في الدعم التقليدي، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني، قادرا على المساهمة بفاعلية في تحقيق رؤية السعودية 2030، وترسيخ مبدأ الاستدامة المالية في أعمال الخير وفي التنمية الاجتماعية والاقتصادية.