غالية بنت محمد عقاب المطيري
الأدب والثقافة، شأنهما شأن العلوم الإنسانية، يحتاجان إلى التدقيق والتمحيص. ومن هنا تأتي أهمية النقد الأدبي، التي لا تقل عن أهمية الحوكمة في المؤسسات أو عملية التقييم في العلوم الإدارية والإنسانية.
لكن النقد الأدبي لا بد أن يعتمد على قواعد وأركان ثابتة. فحضارات الأمم وتراثها الثقافي بحاجة ماسة إلى النقد لتطويره وصونه. وقبل أن نخوض في شجون هذا الحديث، دعونا نوضح مفهوم النقد.
كما يقول ابن فارس في «مقاييس اللغة»: «النون والقاف والدال أصل صحيح يدل على إبراء شيء وبروزٍ له».
أما في الاصطلاح، فإن النقد يعني النظر الكلي في الفن، حيث يبدأ بالتذوق والقدرة على التمييز، لينتقل بعد ذلك إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم. وهذا ما أشار إليه الدكتور رحوي حسين في دراسته المنشورة بعنوان «مقياس النقد الفني».
وفي نفس السياق، ذكرت وزارة الثقافة السعودية على موقعها:
«النقد في حقيقته هو تعبير عن موقف كلي ونظرة شاملة للآداب والفنون، بما يشمل الشعر، والنقد السردي، والروايات، وكل أشكال الأدب والفن. يتناول النقد الأدبي الأعمال الأدبية والفنية بدقة، ويحاول الكشف عن آليات عمل النصوص، تصنيفها، الحكم عليها، واستخلاص مبادئها العامة».
ورغم تعدد التعريفات القديمة والحديثة، إلا أن جميعها تتفق على أن التركيز يجب أن يكون على النص الأدبي والمحتوى الثقافي وليس على الأفراد.
لكن هذا ما تفتقده الساحة الثقافية هذه الأيام.
السبب في ذلك هو أن هناك من يبالغ في تمجيد الكتاب أو الفنانين أو المخرجين، حتى أصبح الحديث عنهم وكأن الساحة الثقافية هي ساحة تراشقات وسجالات لا تنتهي، إما بالمدح والثناء أو الذم على الأشخاص دون التأمل في النصوص الأدبية نفسها. بل دخلت المحسوبية في هذا المجال، وهذا ما تناولته في مقالين سابقين: «الدراما السعودية: نظرة أمل على مقعد الطائرة» و»شاطئ وصورة».
حتى أصبح نجاح العمل الأدبي يعتمد أكثر على شهرة الأفراد من مبيعات الكتب أو تدافع الجمهور، وهو ما يطرح سؤالًا بالغ الأهمية: من يحدد بقاء العمل الأدبي والفني: شهرة الكاتب أم جمال المحتوى؟ وقد أجبنا على هذا السؤال في مقال «من الأبقى؟».
إن ما يحدث الآن هو عاصفة جارفة قد طالت حتى الكتاب المخضرمين الذين لهم تاريخ وقيمة في هذا المجال.
النقد يجب أن يركز على المحتوى الأدبي والفني، وليس على الأشخاص. ولكن، للأسف، الآن يتم مدح الأعمال الدرامية لأن الفنانين المعروفين هم من يؤدون الأدوار، أو يتم الثناء على الكاتب لأن الحشود تتوافد حوله. فأصبح هؤلاء جميعًا حديث الساحة، بينما يتم تجاهل المحتوى ذاته.
لذلك، عندما نريد نقد فيلم أو مسلسل عرض على الشاشات، يجب أن ننقد العمل بكافة تفاصيله، ونناقش السلبيات والإيجابيات، ونوضح ما إذا كان يضيف قيمة للتراث الثقافي والحضاري أم لا.
وفي نفس السياق، عندما يتدافع الجمهور وراء مؤلف معين للرواية، يجب أن ننقد الرواية في جميع عناصرها، ثم بعد ذلك يحق للكاتب أن يُحتفى به. ويتغنى باسمه في كل محفل لأنه أوجد لنا نصًا قيّمًا وكذلك العمل الدرامي.
أما إذا كانت الشهرة والتجمهر هما المقياس، فإننا بذلك نعرض التراث الثقافي لخطر الضياع. ومن هنا تأتي أهمية النقد الأدبي ووجود النقاد الذين يضعون المصلحة الثقافية فوق كل شيء.
و مع أننا نعيش في عصر كثرت فيه النوادي الأدبية والشركاء، إلا أن عدد الباحثين والنقاد قد تضاءل.
كما أن الأعمال الدرامية والأدبية يجب أن لا تقتصر على نوع واحد من الثقافة أو الأدب. وأنا، بصراحة، في استغراب من بعض الذين ينتقدون أنواعًا معينة من الأدب مثل الفنتازيا والخيال العلمي، مع أن هذه الأنواع من الأدب لها محبوها وروادها.
النقد لا يعني البقاء على الموروث دون تجديد، بل يعني تطوير الأدوات والطرق والمواضيع.
النقد هو عملية تقييم العمل نفسه، لا الأشخاص. وهذا ما نحن في صدد الحديث عنه، ولعله نداء صادق لقاماتنا وهاماتنا الأدبية والثقافية للانتباه وتنقيح الساحة الثقافية والأدبية من ذلك التشوه الذي نراه ونسمعه من دراما معربة وكتاب سيناريو من غير الناطقين بالعربية.
فهل ينهض عمالقة النقد الأدبي والثقافي في الساحة الثقافية ويصدق قول الشاعر:
لا أَشربُ الماء ما لم يصفُ مورِدُهُ
ولا أقولُ لِمُعوج الوصل صِل»