د. عبدالحليم موسى
حين نقف عند لحظة سيبويه والكسائي، نجد أنفسنا أمام صراع يتجاوز مجرد قاعدة نحوية، ليصل إلى جوهر فهمنا للغة نفسها. لم يكن الجدل في المسألة الزنبورية مجرد اختبار لقواعد البصرة أو الكوفة، بل كان تعبيرًا عن اختلاف جوهري في الرؤية اللغوية: هل اللغة بنية منطقية ثابتة يمكن استنباط قوانينها الصارمة؟ أم أنها كائن حي، متغير، يتشكل وفق الاستعمال واللهجات؟
لو انتصر سيبويه في المسألة الزنبورية، لكان النحو العربي قد بقي محكومًا بقواعد ثابتة، متجاهلًا التنوع اللغوي والتأثيرات الخارجية. اليوم، مع تداخل اللغات الأجنبية والعولمة، يواجه النحو العربي تحديًا كبيرًا، حيث تتشابك اللغة الأم مع اللغات الأجنبية بشكل متزايد. هذا الصراع بين الصرامة النحوية والمرونة اللغوية ينعكس في كيفية تكامل العربية مع الإنجليزية أو اللغات الأخرى في المجالات العلمية والتكنولوجية. البعض يرى أن الحفاظ على القواعد النحوية يضمن هوية اللغة في مواجهة التأثيرات الأجنبية، بينما يرى آخرون أن اللغة يجب أن تظل مرنة لتتكيف مع الواقع المتغير والتأثيرات الثقافية العالمية.
لو انتصر سيبويه، لكان النظام النحوي العربي قد اتجه إلى مزيد من الصرامة المعيارية، حيث القواعد تُستنبط من اللغة الفصحى وحدها، ويُقصى الاستعمال غير المعياري. كان سينتصر النموذج العقلي الذي يرى أن النحو ليس مجرد وصف لما يُقال، بل معيار يُحكم به على الصواب والخطأ.
هنا نجد صدى لهذه القضية في أعمال نعوم تشومسكي، الذي يرى أن اللغة ليست مجرد مجموعة من القواعد التعسفية التي يفرضها المجتمع، بل إنها نظام فطري يولد مع الإنسان، ولها بنية عميقة تشترك فيها كل اللغات، رغم اختلاف مظاهرها السطحية. لو كان سيبويه حيًا اليوم، لربما وجد في نظرية تشومسكي دعمًا لرؤيته، حيث إن البصمة اللغوية التي تحدث عنها تشومسكي تتقاطع مع فكرة سيبويه بأن اللغة لها نظام داخلي مستقل عن الاستعمال العشوائي للمتحدثين.
لكن في المقابل، يمكن القول إن الكسائي كان أقرب إلى التصورات الحديثة عن اللغة ككائن متغير، حيث يتشكل النحو من خلال الاستعمال لا من خلال القواعد المجردة. كان يرى أن الاستشهاد باللهجات المختلفة ليس ضعفًا، بل دليل على أن اللغة لا يمكن أن تُحكم فقط بنظريات عقلية مجردة.
لو انتصر سيبويه، لكان النحو العربي أقرب إلى النموذج العقلاني الصارم، وربما كان سيصبح أقل مرونة أمام تطورات اللغة عبر الزمن. لكن في النهاية، لم يكن انتصار الكسائي لحظةً نهائية، ولم تكن هزيمة سيبويه سوى نقطة في مسار طويل، حيث انتصر كتابه على الزمن، وبقي مرجعًا شامخًا، بينما ذابت تفاصيل المجلس في غبار التاريخ. وكما قال تشومسكي: «اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي انعكاس لطبيعة الفكر نفسه». فربما لم يكن الأمر مجرد صراع نحوي، بل كان سؤالًا فلسفيًا عن جوهر اللغة ذاتها، لم يُحسم يومها، وربما لن يُحسم أبدًا.