أحمد المغلوث
عاد أبو عبد الوهاب من المسجد المجاور لمنزله وما زال عود «المسواك» في فمه يحركه ذات اليمين وذات الشمال، ومع كل حركة كانت ساعته «الوستن» تهتز وهو عادة يضعها في يده اليمنى عندما دفع باب بيته أحدث الباب صريراً وما إن تجاوز دهليز البيت حتى كانت زوجته تقف في انتظاره. في الرواق وهي مادة يدها لتأخذ منه غترته وعقاله لكن كان يبدو على وجهها شيء مختلف، لاحظ زوجها ذلك في تلك اللحظات القليلة التي شاهدها فيها. لم يكن وجهها هكذا عندما ذهب ليصلي المغرب. فلم يتردد أن قال: وهو يناولها غترته وعقاله خير.. وجهك متغير.. عسى «ما شر». فردت وهي تضع الغترة والعقال على مشجب الرواق: ما فيه إلا الخير.. لكن قدَّر الله وما شاء فعل، وأضافت «مطبقية الهريسة» اللي نفسك فيها لسعت حرارتها نعوم وهي تأخذها من يد فوز كالعادة من تحت جدار الجليب وسقطت منها مع أنها كانت ملفوفة بفوطة أم فهد حريصة كعادتها.. نعوم كانت تقف مستندة على عمود الرواق وغارقة في الصمت ووجلة خوفاً من توبيخ والدها كونها لم تضع في حسبانها حرارة المطبقة. ولم تدرِ ما تقول لوالدها أو تبرر ما حصل وبماذا تدافع عن نفسها.. فقط عليها الصمت. فتطلع والدها إليها وتبسم وقال وهو يجلس أمام سفرة طعام الإفطار الحمد لله سقطت الهريسة ولا سقطت نعومي حبيبتنا.. اللهم لك الحمد. فنظر إليه ابنه وهوبي ولسان حاله يقول: تستاهل كف راشدي.. بل إنه قال: بصوت واضح اللي في عمرها متزوجات.. ما شافت بنت عمي راشد تخبز خبز المسح على التأوه وكم لسعها الخبز.. ولا قالت آه. ولا ما يحزنون.. فتطلعت إليه والدته منزعجة من كلامه وقالت: انثبر وأختك ما تقصّر. واللي صار صار والحمد لله «لسعه» ولا طيحة في الجليب.. أشار والده لابنته أن تجلس. فرددت أنا.. أنا مالي نفس.. وبخطى سريعة اتجهت إلى المطبخ لتحضر بقية الطعام فاقتربت والدتها هامسة في أذن والدها. فتبسم.. فنظر «وهوبي» لهما وهو يكتم ضحكته لكنه حولها لابتسامة وقال نحن هنا. بعد تناول طعام الإفطار وشرب القهوة والشاي قالت أم وهب لزوجها يا ليت بعد صلاة التراويح تشوف لك واحد يقدر ينزل الجليب ويطلع لنا مطبقة هريسة سحورك. عاد اهتم بالموضوع بعد صلاة التراويح أكيد وأنت طالع من جامع الأمير فيصل بتجد شاباً تعرفه وتمون عليه. ولا تتردد ولو تغريه. بريال فضة لو طلعها.. أوه. أجل فهمت المطلوب يا أم وهب. بشري لو تحبين أجيب كل فتوة «المبرز». والعفلنقيه يا كثرم متربعين على دكك القيصرية يبحثون عن نص ريال. فكيف لو أغريتهم بريال وفضة بعد. ما أروع الوعد. وأضاف على العموم جهزي اتريك المجلس علشان يضيء الجليب والحمد لله المطبقية أكيد لم تغطس تحت في الأعماق كنت وجاري بو محمد مركبين شبك من باب الاحتياط..سوف يجدها بإذن الله الفائز بريال الفضة. بعد الإفطار ذهب أبو وهب إلى المجلس لسماع الراديو خاصة أنه يحب تتبع أخبار بغداد والقاهرة وإذاعة جدة». هوايته أنه أول من ينقل الأخبار لرواد مجلسه الذين يترددون على المجلس لسماع الأخبار وكذلك سماع تسجيلات القرآن الكريم التي تبثها الإذاعات لمشاهير المقرئين في شهر رمضان في ذلك الزمن.. وبعد خروجه من صلاة التراويح وقف في انتظار أحد معارفه من شباب المدينة الذي تميز بعدة مواهب وأهمها استعداده لأي «فزعة» نعم ها هو بغترته ونسفه لها على رأسه فناداه باسم أسرته وهو يشير إليه بيده. فجاء إليه مسرعاً آمر يا عمي. فأخبره بالمطلوب. أبشر وأضاف غالي والطلب رخيص. ترافقا إلى البيت وكان فهودي جاهزاً في رواق البيت وبيده الأتريك وما هي إلا لحظات واتجه والده ومرافقه الشاب. ودلفا لغرفة الجليب وسرعان ما أستوزر «لف» وسطه بثوبه بعدما وضع غترته على وتد بجانب البئر ومسك بحبل الدلو ونزل بخفة ورشاقة وسط دهشة أبو وهب وابنه الذي كان ينير له البئر.. وما هي إلا دقائق قليلة ليصعد أيضاً برشاقة وداخل الدلو المعدني «مطبقية» الهريسة..