طلال حسين قستي
في شهر رمضان المعظم، شهر الخير، والبر، والتقوى، والتأمل غير المنقطع، لا يستطيع المسلم أن يحبس نفسه عن غيره، أو ينأى بعيداً عن واقع مجتمعه وحاضر أمته، وهو يتنسم هذه النفحات الروحانية الطاهرة، ويؤدي العبادات المفروضة، ويحسن الصيام، ويقيم الليل. بل يجد نفسه مدفوعاً لمعايشة الواقع الإنساني بكافة أبعاده، فيتحسس من جراء ذلك أحوال من حوله، ويجد في الوقت متسعاً للنظر في الأوضاع العامة التي آل إليها حال إخوانه المسلمين في هذا العصر بأحداثه المفجعة.
وقد يكون أكثر ما يدفع المتأملين للنظر الصائب أو للتمعن والتأمل الصادق في الأحوال القائمة، هي أحاديث الذكريات التي تجسد أمجاد أمتنا الإسلامية، ومدى وقت اتباعها للخير، وكيف أنها استطاعت بفضل من الله، ثم بعزيمة وإيمان وقوة خير أمة أخرجت للناس، أن تجعل من شهر رمضان، واحة خصيبة لاستمرار بقاء الرموز الحية في تاريخ الإسلام.
ويكفينا أن نشير، والحديث عنها مكرر، ولكنه محبب إلى النفس، إلى أن أعظم وأبرز الأحداث المهمة التي نهضت بالمسلمين، وقعت في شهر رمضان، ففي هذا الشهر أنزل القرآن الكريم على نبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وفيه وقعت غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من الشهر المبارك.
بدر.. يوم الفرقان
كانت غزوة بدر التي قادها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم مثابة يوم الفرقان الذي انتصر فيه الحق على الباطل، وانتصرت معه القيم السامية على ما كان سائداً من إهدار لكرامة الإنسان، وكانت بدر الكبرى فتحاً على الإسلام والمسلمين، وكانت هي المعركة التي انتصر فيها الحق على الباطل، وانتصر فيها المسلمون نصراً مؤزراً، وكانت فتحاً على الإسلام وأهله، وتحول فيها الإسلام من الهوان إلى القوة، ولبدر مكانة عظيمة فقد ذكر اسمها في القرآن الكريم وتجلت فيها قدرته سبحانه وتعالى، بنزول ملائكته على جبالها وجنباتها لتشد من أزر الفئة المظلومة، فتحقق لهم النصر على الفئة الباغية، وكانت فاتحة لإعلاء كلمة الله وترسيخ مكانة هذا الدين، لأنها كانت أول معركة بين المسلمين والمشركين، التي كانت تعامل المسلمين بقسوة ووحشية، فإذن الله للمسلمين بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، غير أن قريشاً استمرت في أذى المسلمين ونهب ممتلكاتهم، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن لقريش قافلة قادمة من الشام وسوف تمر بالقرب من المدينة في طريق عودتها إلى مكة المكرمة، قرر أن يقابل المشركين بالمثل، ولكن أبا سفيان بن حرب تمكن من الفرار بالقافلة، وراسل قريش يطلب نجدتهم، فخرجت لقتال المسلمين.
وعندما علم المسلمون بخروج قريش، نزلوا قرب كثيب الحنان وهو العدوة الدنيا التي جاء ذكرها في القرآن الكريم (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى)، ثم غيروا موقعهم الى موقع آخر وبنوا عريشاً من النخل، وهو المكان الذي يوجد فيه مسجد العريش حالياً، وفي هذا المكان وقف الرسول طوال الليل يتضرع إلى الله أن ينصر المسلمين، وكان أن أنزل الله سكينته على المسلمين، وتقابل الفريقان صباح السابع عشر من رمضان، وكان عدد المشركين ألف مقاتل، مقابل ثلاثمائة وبضعة عشر من المسلمين يؤازرهم مدد السماء، وكانت نتيجة القتال انتصار المسلمين نصراً مبهراً مؤزرا، سجله سبحانه في محكم التنزيل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِين} سورة آل عمران 123- 124). َ
وفي رمضان كان فتح مكة المجيد، وغير ذلك من جلائل الأعمال، وعظائم الأمور، التي غيرت مسار التاريخ الإنساني.
مكانة ليلة القدر
ومن فضل الله أنه جعل في هذا الشهر الكريم ليلة مباركة، يجاب فيها الدعاء، هي ليلة القدر التي قال عنها سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. كما تدل الأحاديث الشريفة على مكانة هذه الليلة المباركة التي أوصى صلى الله عليه وسلم بالتماسها في العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك، وهي أفضل الليالي، وأخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر، وأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، كما قال جل وعلا في سورة الدخان: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباُ غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقيام ليلة القدر يكون بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير.
وكما جاء في موقع الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله فإن العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر مما سواها، وهذا فضل عظيم ورحمة الله لعباده، فجدير بالمسلمين أن يعظموها أن يحيوها بالعبادة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر من رمضان، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في كل وتر).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه الليالي بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول. قالت عائشة رضي الله عنها، كان النبي صلى الله عليه وسلم: يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها. وقالت: كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشدَّ المئزر وكان يعتكف فيها عليه الصلاة والسلام غالبًا، وسألته عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر فما أقول فيها، قال: قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان السلف بعدهم، يعظمون هذه العشر ويجتهدون فيها بأنواع الخير.
إن استرجاع أحداث هذا الشهر المبارك في ذهن الإنسان المسلم وأثرها في تاريخ الإسلام والمسلمين، تدفع المرء للتأمل الصادق في أحوال أمته، وتجعله يتساءل للمرة الألف، ما الذي دهى أمة الإسلام حتى أصبحت هكذا ضعيفة ممزقة متناثرة!؟ أليس هذا المصير الذي تعيشه الأمة حصاد الأعمال والنوايا والأهداف البعيدة عن الحق.
إن ما تعيشه الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر، يمثل في الواقع صورة سيئة لم يشهد لها التاريخ الإسلامي مثيلاً من قبل، فلا نجد والحال كذلك من وسيلة للتعبير عن حزننا وعميق رجائنا في الله، سوى التوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى أن يرحم عباده المؤمنين، ويوفق قادتهم إلى ما فيه مصلحة المسلمين.
ولنبتهل إلى الله ألا يحرمنا خير هذه الأيام المباركة، وأن يرزقنا بركتها، وندعوه سبحانه أن ننتصر على ضعف نفوسنا، ونكتسب الشجاعة في مواجهة الأخطاء وكشف العيوب التي أوصلت الأمة إلى هذه الحالة المتردية بكل المقاييس الإنسانية، وندعوه سبحانه بما أوصانا به نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا)..
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
** **
- رئيس تحرير مجلة الحج والعمرة سابقاً