مرفت بخاري
نبحث دائمًا عن إجابات، سواء كانت منطقية أو غير منطقية، فقط لنصل إلى منطقة الأمان الذهني، ذاك الأمان الذي يجعلنا نشعر بأننا تجاوزنا مرحلة الخطر، وأننا بذلنا كل المحاولات لإثبات صحة ما نفعل وصحة قراراتنا. ففي كل مرة نخفق في الاختيار، نصاب بأزمة حقيقية، ولعل أسوأ الإجابات تكمن في كلمات مثل: «ظننت»، «توقعت»، أو «شعرت». مفردات تحمل في طياتها هول الصدمة وخيبة الأمل، حتى يجد المرء نفسه يتمنى الموت قبل أن يعايش ذلك الشعور.
وكيف لا؟ ونحن أناس تقيدنا مشاعر المحبة والود وحسن الظن. وعندما أتحدث عن الخذلان، أجدني، وبدون تفكير، أتحدث عن الغيرة والحسد، فهما مرتبطان لا يفترقان. متى اجتمعا، وجدا بيئة خصبة لإذابة كل أواصر المحبة والتآخي، وتدمير البيوت والعلاقات والأخوة.
وقصة الحسد قديمة جدًا، تعود إلى زمن سيدنا آدم عليه السلام، عندما جاء رد الشيطان عليه لعنة الله: «خلقتني من نار وخلقته من طين». وحده الكبر والحسد والغيرة منع إبليس من السجود والامتثال لأمر الله عز وجل. فقد ارتقى إبليس إلى مرتبة الملائكة لأنه كان أكثر خلق الله طاعة في الأرض، لكنه فقد كل النعيم الذي أكرمه الله به بسبب حسده وغروره، فكان جزاؤه الطرد والإقصاء والحسرة إلى يوم الدين.
وفي كل قصص القرآن الكريم آيات وعبر وفوائد عظيمة، ففي آيات الفرج، نجد دائمًا كرم الله يتجلى في أحلك الظروف. من كان يظن أن السيدة مريم بنت عمران، التي عاصرت الكرب بكل مقوماته حتى قالت في لحظة ألمها الشديد: «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا»، سيكرمها الله بنبي عظيم، يهبه أعظم المعجزات، ويكون بشيرًا بخاتم الأنبياء والمرسلين؟
فرحمة الله وابتلاؤه ما هما إلا اختبار حقيقي لقوة إيماننا وإدراكنا وحسن تصرفنا. فليس القوي من يصرع الناس، بل القوي هو من يملك نفسه عند الغضب.
وفنجان قهوتي اليوم يدعوني إلى أن أجدد حديثي عن أعظم الصفات وأجلّها، عن صفة عظيمة يبغضها إبليس ويحبها الله، وهي من صفاته سبحانه: العفو. ذلك العفو المطلق الذي يتجاوز المقدرة، وينهي الخصومات، ويسعى لإعادة روابط المحبة إلى القلوب.
ونحن في شهر العفو والخير والبركة، في شهر تصوم فيه جوارحنا عن كل ما يجرح الصيام، في شهر التسامح والتآخي والإصلاح. فردّوا الحقوق إلى أهلها، وتخلصوا من الأحقاد والمكائد والأنانية، فالظلم ظلمات، والحياة قصيرة جدًا، والدنيا زائلة.
اغتنموا هذا الشهر الكريم، وارحموا القلوب من بعد الأحباب، ومن بعد الأبناء والأحفاد، ومن بعد ذوي الأرحام. تنازلوا عن المصالح الشخصية من أجل المصلحة العامة للأسرة والمجتمع. لا تنخدعوا بكلام من يتاجر بالمشاعر، ويحثكم على عدم التنازل عن حقوقكم بدعوى أنكم ستُهمّشون، فكل هذه السموم التي تسللت إلى نفوسنا تضعف روابط الأخوة والتآخي.
وتذكروا قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.