عايض بن خالد المطيري
في مجتمعاتنا ارتبط مفهوم الكرم منذ الأزل بالمبالغة في الضيافة، حيث يتفاخر البعض بتقديم ما يفوق الحاجة بكثير، حتى لو كان ذلك يؤدي إلى إهدار النعمة ورمي الطعام في النفايات. هذه العادة، رغم ارتباطها بتقاليد الضيافة العربية، أصبحت تتجاوز حدود المنطق، فتتحول الولائم من وسيلة للتقدير والإكرام إلى استنزاف غير مبرر للموارد، في ظل عالم يعاني فيه الملايين من الجوع والفقر.
حين يدعو أحدهم ضيفًا إلى وليمة، فإنه يشعر أن عليه تقديم أفضل وأكبر الأطباق، ليس فقط من باب الكرم، بل لأن العرف الاجتماعي فرض ذلك، وأي تقليل قد يُفسَّر على أنه بخل أو عدم تقدير للضيف. لكن المشكلة ليست في المضيف وحده، بل في ثقافة مترسخة تجعل الضيف نفسه يتوقع هذه المبالغة، حتى إن البعض قد يستنكر قلة الطعام أو يربطها بعدم الاهتمام. هنا يقع المضيف بين خيارين أحلاهما مر: إما أن يسرف خشية الانتقاد، أو أن يكون عقلانياً ويتحمل تبعات ذلك من انعكاسات سلبية وتعليقات قد تؤثر على سمعته.
في مواجهة هذا الواقع، ظهرت بعض المبادرات الرائعة التي تسعى لكسر هذه العادات، وكان من أبرزها موقف لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعد بن عبدالعزيز، أمير منطقة حائل الذي ظهر في أحد المقاطع، حين وجه رسالة قوية بعد أن دعاه أحد المواطنين لوليمة. ووضع الأمير شرطًا لقبول استجابة الدعوة أن تكون الوليمة مقتصرة على خروف واحد فقط دون أي زيادة أخرى ودون أي مبالغة أو تكلف. لم يكن هذا الشرط عادياً، بل جاء ليعكس وعياً متقدماً بضرورة ترشيد الاستهلاك والابتعاد عن ثقافة التبذير، وليؤكد أن قيمة الضيافة لا تقاس بحجم الطعام المقدم، بل بحسن الاستقبال وصدق المشاعر والمحبة. قبول سمو الأمير لهذه الوليمة غير المكلفة لم يكن مجرد تصرف عفوي، بل كان درساً عملياً للمضيفين والضيوف معًا. فقد أرسل رسالة واضحة بأن الكرم الحقيقي لا يكون بالإسراف، بل بالتوازن بين إكرام الضيف وحفظ النعمة. كما أنه رفع الحرج عن المضيف، فمنحه حرية تقديم ما يستطيع دون قلق من نظرة المجتمع أو أحكام الآخرين، ومنع التكلف المبالغ فيه. الأهم من ذلك أنه ألغى فكرة أن حجم الوليمة يعكس قيمة الضيف، ليؤكد أن التقدير يُقاس بالاهتمام والاحترام، لا بكثرة الطعام وتنوعه والذي يكون مصيره صناديق النفايات.
هذا الموقف يطرح تساؤلات مهمة متى نكف عن التباهي بالولائم الفاخرة التي تتحول إلى هدر للنعم؟ متى نعيد تعريف مفهوم الكرم بحيث يكون مرتبطاً بالاعتدال وحسن التدبير؟ إن الضيافة الحقيقية ليست في عدد الأطباق الموضوعة على المائدة، بل في النية الصادقة التي تحملها دعوة المضيف. وإذا كان قادة المجتمع يقدمون نماذج راقية في محاربة الإسراف، فلماذا لا نقتدي بهم ونبدأ بتغيير عاداتنا نحو الأفضل؟
ربما يكون الوقت قد حان لكسر هذه العادات المغلوطة، ولنبدأ بفهم بسيط وهو أن تقديم الطعام بقدر الحاجة ليس بخلاً، بل هو احترام للنعمة، وأن الضيف الحقيقي هو من يقدر ظروف مضيفه ولا يكون سبباً في إحراجه أو دفعه إلى الإسراف.