محمد سليمان العنقري
استخدمت اميركا حقها برفض أي قرار ضد روسيا في مجموعة السبع الكبار وتضع خططها لإيقاف حرب تدور في اوروبا بعيداً عن أعين شركائها الاوروبيين في حلف الناتو فكلها إشارات لفجوة بدأت تتسع في علاقات واشنطن بدول أوروبا، وقد يكون الحكم على ذلك التباين مبالغاً فيه؛ فالتحالف الغربي عمره عقود طويلة وجمعتهم مصالح كبرى وقام على ما يجمعهم من مبادئ وقيم وأصول عرقية مشتركة، وليس فقط المصالح الاقتصادية او الأمنية والسياسية، فقد حاربوا سوياً وقدموا عشرات الملايين من القتلى في مواجهة هتلر، ومن ثم بدات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي أو الشيوعي والرأسمالي، وحققوا ايضا الانتصار بها بسقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه عام 1991 لكن كما يقال دوام الحال من المحال، فقد بدأ يتشكل نظام عالمي جديد، واستعدت اوروبا لهذه المرحلة باتحادها النقدي وتشكيل تكتل منافس اقتصادياً لأميركا، والتخلص التدريجي من التبعية لواشنطن في توجهاتها السياسية او الاعتماد عليها في الامن والدفاع عنها من خلال حلف الناتو الذي يعتمد بشكل كبير جداً على واشنطن وقدراتها العسكرية الهائلة، وهو ما يعد تقصيراً من أوروبا في أنها لم تطور قوتها العسكرية لتحمي أمنها بنفسها كما يفترض ان تصل له فصحت بعد حرب روسيا على اوكرانيا على تلك الحقيقة المرة، وبدات تضع الخطط العاجلة والاستراتيجية لمعالجة هذا الخلل بعد أن شعرت بأن واشنطن لم تعد لديها الرغبة بلعب دور الحامي لهم كما السابق..
فكان التغيير بالتوجهات الامريكية صريحاً في عهد الرئيس ترمب حالياً بل حتى في ولايته الأولى وهو ما جعل أوروبا تقر سياسة جديدة لإعادة التسليح بحوالي 800 مليار يورو لكن الأهم من ذلك أن أميركا بدأت تتجه لبناء تحالفاتها على العمق في المصالح الاقتصادية بشكل أساسي إن لم يكن مطلقاً، وبالتالي هي ترى في أوروبا حالياً عبئا ومنافسا قويا جداً بالمستقبل القريب، ولذلك بدأت تغير من تعاملها معها في الشق التجاري بوضع رسوم على اغلب صادرات اوروبا لاميركا فاليورو يعد المنافس الأهم للدولار في أن يأخذ من حصته في خريطة الاحتياطيات العالمية والتعاملات بالتجارة الدولية، كما أن أوروبا متطورة تقنياً وعلمياً ومؤهلة لتجاوز أميركا في مسارات عديدة، ويمكنها ان تبني أيضا تحالفات اقتصادية قوية مع مناطق جغرافية عديدة في العالم، ولذلك بدأ أهم طرفين في التحالف الغربي في الابتعاد عن بعضهما، والبداية هي تشكيل اوروبا لقوتها العسكرية من جديد لتحمي نفسها ذاتياً إضافة لما أعلنه الرئيس الفرنسي بأنه يمكن توسيع المظلة النووية لتشمل اوروبا وهو أهم سلاح ردع استراتيحي سيحميها في أي صراع مع روسيا التي تملك أكبر عدد من الأسلحة النووية في العالم.
فأميركا اليوم بدأت تظهر وجهاً جديداً في نهجها الخارجي وسياسة الرئيس ترمب تركز على إيقاف نمو الدين السيادي وخفض العجز التجاري وتحويله لفائض إضافة لتقليص نفقات الميزانية بما يخفض عجزها بنسبة كبيرة جداً، ولذلك فهو أصبح يقرأ خريطة التحالفات والعلاقات من منطلق يحقق له ذلك ويضع أسس العلاقة مع اهم حلفائه أوروبا وكندا على أساس تجاري واقتصادي بحت، ولا يتخذ أي قرار يشمل فيه مصالح أي حليف استراتيجي تقليدي مثل دول الناتو التي تضم أغلب دول اوروبا وكندا كما أنه يطالب بعقد صفقات استراتيجية كبيرة ومهمة مقابل تحقيق السلام في الملف الاخطر على اوروبا الذي يهدد استقرارها وهو الصراع الروسي الاوكراني من خلال طلبه عقد صفقة المعادن النادرة مع كييف لما لها من اهمية في توفير احتياجاتهم لاهم الصناعات الدقيقة والحديثة وهو الامر الذي ازعج اوروبا، وبدات تناور سياسياً لمحاولة عرقلته او تغيير بعض بنوده لتقليل استفادة أميركا وان يكون لها دور ونصيب في استثمار ثروة اوكرانيا من المعادن النادرة والمهمة لصناعات تحتاجها أوروبا كثيراً لبناء قوتها العسكرية، وكذلك في تقدمها التكنولوجي.
قال توني بلير قبل عامين تقريباً إن الهيمنة الغربية بشكلها الحالي انتهت، والعالم يتجه لتعدد الاقطاب، و تعرف أوروبا معنى ان اميركا وصل دينها السيادي لمستويات مقلقة جداً عند 36،5 تريليون دولار وهو ما يعادل قرابة 130 بالمائة من ناتجها الاجمالي، ولذلك تغير نهجها بالانفاق والمسؤوليات والتوجهات المبنية على مصالح بعيدة عن اوروبا وتعي ايضاً انها تأخرت بتطوير قدراتها العسكرية الذاتية ولكن حتى تحاول استيعاب هذا القصور وتبطيئ حركة الرئيس ترمب بتحولات أميركا اتجاههم والضغط عليه لتخفيف إجراءاته التجارية ضدهم قاموا بوضع رسوم على واردات امريكية من ولايات جمهورية للسوق الاوروبي أي توجيه ضربة سياسية ستجعله يعيد النظر بسرعة خطواته نحو الضغط عليهم برفع الرسوم الجمركية، والتخلي السريع عن مسؤوليات أميركا نحو حماية أمن أوروبا حتى يكسبوا الوقت للوصول لمستهدفاتهم الجديدة إلا ان المؤكد أن هذا التحالف الغربي بدأ يتباين في كثير من الملفات والتوجهات وأن انفصاله أصبح واضحاً اكثر من أي وقت مضى، وهو جزء من إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد الذي يقوم على الاقتصاد والعلاقات التجارية والمصالح الاستثمارية فقط بعيداً عن اي اعتبارات أخرى.