تغريد إبراهيم الطاسان
لقد شهد العمل الخيري في المملكة تحولات جوهرية خلال العقود الماضية، انتقل فيها من النمط التقليدي القائم على العطاء الفردي غير المنظم إلى نماذج مؤسسية قائمة على التخطيط الإستراتيجي والتوظيف الأمثل للموارد.
هذا التطور لم يكن مجرد تحديث تقني، بل هو جزء من فلسفة أعمق تهدف إلى ضبط العمل الخيري وتوجيهه ليحقق نتائج أكثر استدامة وتأثيرًا.
فالمملكة، من خلال مبادراتها المختلفة، رسّخت نموذجًا للعمل الخيري يوازن بين العفوية الإنسانية التي تدفع الأفراد إلى البذل، والحوكمة التي تضمن وصول التبرعات إلى مستحقيها بفاعلية وشفافية.
فلسفة العمل الخيري في السياق السعودي لا تقتصر على تقديم المساعدة للفئات المحتاجة، وإنما تتجاوز ذلك إلى بناء الإنسان وتعزيز جودة الحياة وتحقيق التنمية الاجتماعية.
لم يعد العمل الخيري مجرد تبرعات مالية تقدم بشكل مباشر، بل أصبح يشمل برامج واسعة في مجالات الصحة والتعليم والتمكين الاقتصادي والرعاية الاجتماعية.
هذه الفلسفة تعكس فهمًا متقدمًا لدور العمل الخيري في تعزيز الاستقرار الاجتماعي، حيث يُنظر إليه على أنه أداة لتحقيق التكافل والعدالة الاجتماعية، لا مجرد وسيلة لسد الاحتياجات الطارئة.
إحسان، بوصفها منصة وطنية رقمية، تمثل نموذجًا لهذا التحول، حيث استطاعت أن تجمع بين الجانب التقني والبعد الإنساني، مما جعل العمل الخيري أكثر تنظيمًا وأعلى كفاءة.
فالمنصة لا تكتفي بجمع التبرعات، بل تعمل وفق آليات دقيقة تضمن إيصالها إلى مستحقيها، مستفيدة من تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لضبط العمليات وتحقيق أعلى درجات الشفافية.
وبهذا، أصبحت المملكة في مقدمة الدول التي استطاعت إعادة صياغة العمل الخيري ليكون جزءًا من منظومة التنمية الوطنية، وليس مجرد نشاط جانبي يقوم على المبادرات الفردية.
وجاءت الحملة الوطنية للعمل الخيري عبر منصة «إحسان» في نسختها الخامسة والتي انطلقت في مطلع شهر رمضان، لتمثل محطة جديدة في مسيرة المملكة العربية السعودية نحو تطوير العمل الخيري وتعزيزه، بما يحقق الأثر الأوسع والأكثر استدامة.
ويأتي التبرع السخي لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمبلغ 70 مليون ريال، تأكيدًا على التزام القيادة الرشيدة بدعم العمل الخيري، ليس بوصفه عملاً تطوعيًا محضًا، وإنما باعتباره ركيزة أساسية في البناء الاجتماعي ومسؤولية وطنية تنهض بها الدولة والمجتمع على حد سواء.
إن تبرع القيادة للحملة الوطنية للعمل الخيري ليس مجرد دعم مالي، بل هو رسالة ذات أبعاد متعددة؛ فهو يؤكد أن العمل الخيري مسؤولية مجتمعية يجب أن يشارك فيها الجميع، ويعزز ثقافة العطاء المؤسسي الذي يرتكز على الأثر الملموس بدلاً من العطاء العابر، كما يعكس هذا التبرع وعيًا بأهمية استدامة الموارد الخيرية، بحيث لا تكون مساعدات مؤقتة، بل استثمارات طويلة المدى في الإنسان والمجتمع.
هذا النهج لا ينفصل عن الرؤية الأشمل التي تتبناها المملكة في إطار رؤية 2030، حيث تسعى إلى تمكين القطاع غير الربحي ليكون مساهمًا رئيسيًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ فالعمل الخيري في جوهره ليس مجرد إحسان إلى الآخرين، بل هو وسيلة لإعادة توزيع الفرص، وخلق بيئة اجتماعية أكثر تماسكًا واستقرارًا.
ما تحقق في السنوات الأخيرة من ضبط للعمل الخيري، ومنع العشوائية التي كانت تحدّ من فاعليته، يمثل تطورًا جوهريًا يعكس نضج المنظومة الخيرية في المملكة.
لقد انتقلنا من مرحلة العمل الخيري القائم على العاطفة إلى عمل خيري أكثر عقلانية، يخضع لمعايير دقيقة، ويهدف إلى تحقيق أثر مستدام.
وهذا التطور لم يأتِ فقط من خلال التنظيم الحكومي، بل هو نتاج وعي مجتمعي متزايد بأهمية العمل الخيري الممنهج، الذي لا يقتصر على تقديم العون، بل يسهم في بناء مجتمع أكثر تكافلًا واستقرارًا.
إن الحملة الوطنية للعمل الخيري في نسختها الخامسة ليست مجرد حدث سنوي لجمع التبرعات، بل هي تعبير عن رؤية متكاملة للعمل الخيري كجزء من المشروع الوطني الكبير الذي يهدف إلى تمكين الأفراد والمجتمع.
وهذا ما يجعلها نموذجًا للعمل الخيري الذي يجمع بين النية الصادقة والتخطيط الدقيق، ليكون العطاء وسيلة للتنمية، وليس مجرد استجابة للحاجات الآنية.