د.حادي العنزي
يُولد الإنسان على الفطرة والبراءة والشفافية، فيتعلّم من والديه ومجتمعه الصغير ثم الكبير، حيث تتشكل (95 %) من شخصيته خلال السنوات الخمس الأولى من حياته. ومع مرور الوقت يكبر وينمو ويتعلّم المزيد.
إن هذه الرحلة من التعلم والنمو هي أساس هوية الإنسان، حيث يتفاعل مع بيئته ويكتسب القيم والمبادئ التي تحدد سلوكه وتوجهاته.
وأثناء حياته، يتعرض لتحديات كثيرة تفرضها عوامل عديدة، منها: القيود الاجتماعية التي تطالبه بالامتثال للعقل الجمعي وسياسة البيئة الواحدة، إضافة إلى ضغوطات العصر الحديث ومعطيات العولمة. فيعيش في توترات لا متناهية بين شخصيته الحقيقية والتقاليد الاجتماعية، حيث تكبله متطلبات الحياة المعاصرة التي لا تنفك عنه، وتتزايد عليه بشكل مستمر، مما يجعله في دوامة من الصراعات الداخلية بين تحقيق ذاته وبين الرضوخ للواقع الذي يفرض عليه قيودًا لا مفرّ منها.
هذه التوترات تصنع منه آلة بلهاء لا يمكن ضبطها على موجة محددة، أو تركها تعمل ليل نهار لمواكبة المستجدّات وقبول الرضا الاجتماعي. فتتشكل في شخصيته شخصيات أحيانًا متجانسة، ومرات أخرى مختلفة وغير مؤتلفة، يرتدي خلالها أقنعة وهمية تُرضي غيره.
تشير دراسات حديثة إلى أن (78 %) من أفراد المجتمع الغربي يعيشون تحت وطأة ضغوط مستمرة تدفعهم لارتداء أقنعة مثالية، خوفًا من أحكام الآخرين ورغبةً في إرضائهم. فإذا كان هذا حال مجتمعات تُعرَف بفردانيّتها واستقلاليّتها، فكيف بالمجتمعات العربية التي تتشابك فيها العلاقات الاجتماعية وتتضاعف بها المتطلّبات، ليصبح رضا الآخرين جزءًا لا يتجزّأ من معادلة القبول المجتمعي؟
هم على غير حقيقتهم، يُخفون واقعهم، ويرسمون ملامح زائفة عنهم، يعيشون بها ظاهريًّا في حلقة من التفكّك النفسي الذي يؤرقهم في المنام، ويجعلهم يهربون من مواجهة المرايا، ومن إصلاح ما انكسر من ذواتهم! إنه صراع داخلي مؤلم وعميق يبحث من خلاله أصحاب المرايا المكسورة عن تجميع شظايا كل المرايا في مرآة واحدة، لعلّها تحقّق التوازن بين المطلوب الاجتماعي والواقع الشخصي.
ومع عمليات الجمع والتجميع، تختلف الصراعات باختلاف الثقافات. ففي المجتمعات العربية، حيث تسود القيم الجماعية، قد يضطر شخص يعاني من ضائقة مالية إلى إقامة عُزومة باذخة، أو استئجار سيارة فارهة، أو شراء ملابس باهظة الثمن؛ لإظهار رفاهية مزعومة؛ من أجل رضا الآخر.
يدخلون في أدوار تمثيليّة كأبطال لمسرحيّات اجتماعية، يعتقدون أنهم أبطالها وهم ضحاياها في الوقت نفسه. أحاديثهم غالبًا تدور حول إنجازاتهم، ومفاخرهم تتمحور حول مظاهر زائفة، مثل ماركات الملابس التي يرتدونها، والسيارات الفخمة التي يركبونها، والأماكن الفاخرة التي يزورونها!
وفي معترك هذه الصراعات الفردية، تختفي الملامح الحقيقية للمجتمعات، وتذوب شخصيات الأفراد لتتداخل مع وَهْم الحياة وبهرجها الذي لا ينطفئ حتى قيام الساعة، فيعيش معظم البشر بغير حقيقتهم، وبألوان باهتة تتماهى مع الآخر، وتناسب كل الأذواق، وتتماشى مع مختلف الأطياف.
إنّهم حالات مرضيّة مزمنة تستدعي دراستها نفسيًّا واجتماعياً؛ لأنهم يقتلون هوية الفرد بهذا الامتثال الاجتماعي غير الواعي، ويؤسسون لمفاهيم التفاهات الاجتماعية، ويسرقون من المجتمعات جمالها الداخلي لحساب بريق المظهر الخارجي ورضا الآخرين.
يبنون هوية مزيفة أجبرتهم عليها شركات العولمة، التي تُنفق أكثر من (500) مليار دولار سنوياً على إعلانات تعزز صورًا وهمية، في ظاهرها أنها مثالية للنجاح والجمال، وحقيقتها التشجيع على الاستهلاك وحب المظاهر.
رسموا خريطة الأفراد والمجتمعات على طريقتهم، وحددوا تضاريسها بإنسان العصر «المتقدم»، وخوفوه من نظرة الآخر وحكمه، فجعلوه يلبس طاقية الإخفاء كي يقبلوه ضمن فريق لعبة الغُميمة. فإذا عانى من ضائقة مالية، عليه أن يواجهها بأسلوب البذخ حتى يُرضي توقعات الآخرين حوله!
الخوف من حكم الآخرين يجعلنا نعيش حياة مزدوجة: واحدة نعرضها للآخرين، وأخرى نخفيها لأننا نخشى أن يُرفَض وجودنا الحقيقي. وتزيد من وتيرة هذا الخوف التوقعات المجتمعية الثقيلة؛ فمنذ الطفولة، نحن مبرمجون على أن نرتقي إلى توقعات المجتمع: «كن الأفضل»، «ارفع اسم العائلة»، «لا تجعلنا نخجل أمام الناس». والأشد إيلامًا أن النجاح لا يعني فقط تحقيق أهدافك، بل يعني أيضًا أن تُظهر هذا النجاح باستمرار وبأكثر الطرق بريقًا.
هذه التوقعات تُدخلنا في حالة من الضغط المستمر؛ لأننا نحاول دائمًا أن نثبت شيئًا للآخر، حتى لو كان ذلك على حساب راحتنا النفسيّة والجسديّة.
يزيد هذا الواقع المؤلم، الصورة المثالية المدسوسة في الإعلام حول تعزيز فكرة الكمال. كل إعلان يقول لك: «إذا اشتريت هذا المنتج، فستصبح أكثر نجاحًا»، «إذا ركبت هذه السيارة، فسيحترمك الناس»، «إذا ارتديت هذه الساعة، فستبدو مميزاً». وهكذا، ننخرط في سباق لا نهاية له نحو المثالية المزعومة.
إن معظم وسائل الإعلام تصنع صورة وهمية في غلاف المثالية، وهذا يجعلنا نشعر دائمًا بأننا غير مؤهلين اجتماعيًا وماليًا.
علينا أن ندرك أن رضا الجميع مستحيل، وأن السعادة الحقيقية تأتي من ممارسة حياتنا التي تتماشى مع قيمنا وأهدافنا الشخصية، وليس مع توقعات الآخرين أو الركض خلفهم. كما ينبغي أن نتعلم كيف نفرق بين ما نحتاجه فعلًا وما يفرضه علينا الآخر.
قبول الذات الحقيقية ليس مستحيلًا، بل هو رحلة تحتاج إلى شجاعة ووعي. يجب أن نتوقف عن مقارنة أنفسنا بالآخرين، وبدلًا من التركيز على ما نفتقده، يمكننا الاحتفال بما نملكه مهما بدا بسيطًا.
العالم لا يحتاج إلى نسخة مثالية منك، بل يحتاج إلى نسختك الحقيقية، بكل عيوبها وفوضاها وجمالها. فالأشخاص الأكثر تأثيرًا في التاريخ هم من عاشوا واقعهم كما هو، دون تصنع أو تلون. لقد كانوا أصيلين واثقين من أنفسهم، لا تحركهم عصا القطيع الواحد ولا تهزهم ادعاءات الإعلام.
كن كما أنت، لا كما يريدون.