د. ناهد باشطح
فاصلة:
«إن تذكّر أشياء من الماضي ليس بالضرورة أن تكون كتذكر الأشياء كما كانت عليه في وقت مضى» - مارسيل بروست-
لاحظ «يوهانس هوفر» عندما كان طالبا في كلية الطب أن مجموعة من العمال السويسريين المغتربين يعانون من أعراض مرضية مشتركة كالأرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر الهضم، واكتشف أن من أهم أسباب تلك الأعراض الحنين إلى أوطانهم، وقتها ابتكر مصطلح الحنين إلى الماضى وأطلق عليه نوستولجيا».
وتعرف «النوستالجيا» بأنها آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين المزاج، خاصة عندما يشعر الانسان بالوحدة او عدم التكيف في حياته ،وللحنين فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو يعزز الثقة بالنفس اذا لم يصبح متلازمة ومنطقة هروب من مواجهة مشاكل الواقع ،وهنا تكمن الإشكالية إذ إن الحنين هو خدعة العقل كما يقول الدكتور «هشام رامى»، أستاذ الطب النفسى، (بمعنى أن الانسان عندما يتذكر الماضى، لا يتذكر الأحداث السيئة، بل يتذكر فقط الأحداث الجميلة، ما يجعله يتطلع إلى العودة إلى الماضى ، يفعل ذلك المخ للراحة من صعوبات الحياة).
وقد أثبت العلم « أننا نمارس في استرجاعنا لذكريات الماضي بعض أخطاء التفكير مثل التفكير الانتقائي ،المبالغة، التعميم الزائد، والتفكير القطبي «المتطرف».
وأحيانا قد يدفع البعض الحنين الى استخدام الحيل الدفاعية النفسية مثل النكوص (ممارسة سلوكيات لا تتناسب مع العمر) والإنكار (مثل: إنكار التعرض لتجربة مريرة كفقد عزيزاو خسارة أموال).
أتحدث عن الحنين ليس -لأنه فقط جزء من تكوين شخصيتي فأنا دائماً احتفظ بالذكريات، اخبئها في قلبي وبين اوراقي وفي ادراج مكتبتي وأحملها حال سفري معي من مدينة لأخرى،- ولكن لأن الحنين يحمل بين طياته فخ لا يدركه إلا الوعي بأهمية الحضور في اللحظة، فالشخص الذي يحن للماضي غالبًا ما يكون لديه سمات من الشخصية النوستالجية أو الحنينية (Nostalgic Personality) هذا النوع من الأشخاص يحب استرجاع الأحداث القديمة بإحساس عاطفي قوي، هم يرون الماضي كزمن أجمل بذكرياته.
وهنا برأيي تكمن إشكالية الحنين عندما نجد صعوبة في التخلي عن الماضي والانتقال إلى المستقبل وهو ما خبرته في سنوات ثمان ماضية واكتشفت أن الاستغراق في الحنين إشكالية نتلذذ بها حال فقدنا لمن نحب او ما نحب فقداً أزلياً.
لماذا أخبركم هذه المقدمة!
لأقول بأني حين اعتذرت عن الكتابة في الجزيرة عام 2017 فذلك جاء ضمن عدة قرارات اتخذتها لا شعوريا حتى لا أعيش الواقع وأخطط للمستقبل وأغرق في الحنين ضمن رحلة طويلة للتعافي من حزن الفقد.
واليوم حين دعاني رئيس تحرير» الجزيرة» استاذي القدير «خالد المالك» للكتابة من جديد، أدركت أن الوقت حان لأنفض عن قلبي تراكمات الماضي وأستوعب أجمل ما في الحنين حين نستطيع عيش الذكريات من جديد بروح جديدة
لطالما عاندت إحساسي بالبيت الشهير القائل:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
لكن الحياة أثبتت لي بتجاربها المختلفة أن البدايات لا تنسى ففيها الكثير من لذة الاندفاع وغموض المغامرة.
وأن الحنين المؤقت يغذي الروح لكن الإفراط فيه يحجب نور شمس الحاضر والمستقبل
* المصادر
- أمل صفوت، االنوستالجيا».. اضطراب أم ظاهرة طبيعية؟ المصري اليوم، العدد: 7203، 2024.
- سماح عليان،»النوستالجيا».. لماذا يلجأ الإنسان للعيش في الماضي؟، الجزيرة نت، 2018
- David Ludden ,The Psychology of Nostalgia, New studies show why we reminisce about the past, https://www.psychologytoday.com, 2020.