د.شريف بن محمد الأتربي
هُوِيَّةٌ - هُوِيَّةٌ (مَنْسُوبٌ إِلَى هُوَ). هُوِيَّةُ الْإِنْسَانِ: حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ وَصِفَاتُهُ الْجَوْهَرِيَّةُ.
هذا هو التعريف الوارد في معاجم اللغة، والذي يستخدم بشكل شائع للتعريف عن كينونة الشخص وتفرّده أو بطاقته الشخصية، جاء مصطلح الهوية ليعبر عن مجمل السمات التي تميِّز شيئا عن غيره، أو شخصا عن آخر، أو مجموعة عن غيرها، كلّ منها يحمل عدة عناصر في هويته. عناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة، وبعضها الآخر في مرحلة أخرى.
والهوية الوطنية تترجم عمق الانتماء لدى أبنائها، وهي تظهر لديهم في تفاخرهم بأمتهم أمام الأمم الأخرى من حيث رفعتها وتطورها وتقدمها وتاريخها وحاضرها وماضيها، وهي جامعة للأفراد والجماعات، وهي القاسم المشترك الذي تجتمع فيه مصالح وثقافات كل المكونات التي لا تعيش صراعات. ويمكن التعبير عن ذلك بالقول إنها الخواص التي تجتمع حولها هوية اجتماعية، تتميز عن غيرها بميزات فارقة.
وإذا كانت هوية الإنسان معبرة عنه وعن انتمائه وارتباطه بجماعة معينة وبمكان معين؛ فإن التعليم يعد واحدا من أهم المؤثرات في تثبيت هذه الهوية أو فقدانها بما يتضمنه من معارف يتم مداولتها ومدارستها بين الطالب ومعلمه، وبين الطالب وأقرانه، وبينه وبين مجتمعه الصغير والكبير أيضا.
لقد تضمنت هوية التعليم في المملكة العربية السعودية رؤية وأهداف ومبادئ توجه نظام التعليم في المملكة. ورؤية التعليم في المملكة، هي تحقيق تعليم متميز يساهم في بناء مجتمع معرفي واقتصاد متنوع. وجاءت الأهداف داعمة لهذه الرؤية، حيث اشتملت على تطوير مهارات الطلاب وتعزيز القيم الوطنية، وتوفير بيئة تعليمية مناسبة.
رغم اشتمال هوية التعليم في المملكة على رؤية وأهداف ومبادئ وقيم؛ إلا أنها لم تتحقق كليةً، ولا زالت المخرجات المنتظرة قائمة على جهود ذاتية ومبادرات أحادية من أصحابها تتبناها الوزارة بعد نجاحها لتصبح ضمن منجزاتها ومخرجاتها وهي بعيدة كل البعد عن بداياتها أو تأطيرها وتشجيعها.
تعاني هوية التعليم في المملكة غياب رؤية واضحة، وعدم وجود توجه استراتيجي محدد مما أدى إلى تباين في جودة التعليم والمخرجات، كما أدى عدم التركيز على تعزيز القيم والتراث الثقافي إلى فقدان الهوية الثقافية، ناهيك عن عدم ملاءمة المناهج الدراسية لاحتياجات الطلبة وتغييرها بطريقة عشوائية قد لا تعكس احتياجات السوق أو تتماشى مع التطورات العالمية، مما يؤدي إلى فجوة بين التعليم وسوق العمل. لقد أدى فقدان الهوية التعليمية إلى نقص في التفاعل المجتمعي ظهرا جليا في غياب التعاون بين مؤسسات التعليم والمجتمع المحلي مما أدى إلى فقدان فاعلية البرامج التعليمية لعدم قدرة المجتمع على استيعاب أهداف هذه البرامج لكثرة تغيرها وسرعته أيضا. رغم حرص الدولة على الاستفادة من الممكنات التقنية في العملية التعليمية؛ إلا أن هذا الأمر لا يتم بالشكل الصحيح، ولم يحقق النتائج المرجوة منه، وأغلب هذه التقنيات إما مغيب، أو يستخدم لإثبات الاستخدام وليس بغرض التفعيل لما يخدم العملية التعليمية، ويحقق مصلحة الطالب والمجتمع ككل.
لقد توجهت وزارة التعليم نحو قياس مخرجاتها التعليمية بناء على عدد من المحكات ومنها الاختبارات الدولية، ورغم إشراف منظمات لها خبرة طويلة وكفاءة عالية في مجال التعليم وتقويمه على تلك الاختبارات كمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، والمنظمة الدولية لتقويم التحصيل التربوي IEA ، ورغم أن هذه الاختبارات تعد مؤشراً هاماً لمستوى تحصيل الطلاب في المواد الدراسية الأساسية والمهارات التعليمية؛ إلا أنها خاضعة للمفهوم الغربي في أهداف تعليمه ومكتسبات أبنائه من العملية التعليمية، ولم يلتفت إلى احتياجات الدول المطبق بها وضرورة وجود مكتسبات تناسب هوية هذه المجتمعات مما أدى إلى التركيز على النتائج وليس النواتج وبينهما فرق كبير. لقد قامت العديد من الدول بتكييف نظم تعليمية خاصة بها، تهتم بالموروثات الثقافية والاجتماعية للمجتمع، ولا تغفل مطلقا عن المكتسبات والمستهدفات من العلمية التعليمية والتي تبنى على تجارب الأخرين في الغرب وغيره. ففي الهند مثلا، تم إدخال وحدات دراسية تتعلق باللغات واللهجات المحلية، مما يعزز الفخر الثقافي واللغوي لدى الطلاب. وفي كندا تضم المناهج الكندية مواد تتعلق بثقافات السكان الأصليين، بما في ذلك التاريخ، الفنون، والممارسات التقليدية. كما تُدرج ثقافة «ماوري» في المناهج النيوزيلندية، مع التركيز على التاريخ، اللغة، والفنون الأصلية. في جنوب أفريقيا، تم دمج محتوى يعكس التنوع الثقافي للبلاد في المناهج، مما يعزز التعلم عن الثقافات المختلفة. تتضمن المناهج اليابانية دراسة الفنون التقليدية مثل «الكاليغرافيا» و»الخط»، مما يُعزز الفهم للأهمية الثقافية لهذه الفنون.
وحتى نضمن عدم غربنة المناهج وضياع الموروثات الثقافية والاجتماعية المحلية، مع تحقيق أقصى قدر من الاستفادة من العلوم الغربية والمحكات التي توفرها المنظمات والمؤسسات العالمية التي تحدد القيم والمعايير اللازمة للتحصيل الدراسي من معارف ومهارات للمستويات التعليمية يجب علينا أن ننتهج استراتيجية محددة لتحقيق هذه الفائدة المزدوجة، وهي تبنى على:
- تكييف المناهج. حيث يتم تعديل المناهج العالمية لتشمل محتوى يعكس القيم والتقاليد الثقافية المحلية، مع إضافة وحدات دراسية تركز على التاريخ والثقافة المحلية، مما يعمق الشعور بالفخر لدى الطلبة بما كان عليه الأولين، ويحفزهم على التفوق على الآخرين.
- تطبيق التعليم القائم على المشاريع وتشجيع الطلبة على تنفيذ مشاريع تتعلق بالثقافة المحلية، مما يعزز فهمهم للتراث الثقافي.
- تدريب المعلمين. يعد المعلمون هم حجر الأساس في العملية التعليمية، وبدونهم لا تستقيم ولا تستمر، لذا فيجب على المعنيين توفير برامج تدريب للمعلمين لتعزيز فهمهم للثقافة المحلية وكيفية دمجها في التعليم. كما يجب إشراك المجتمع والأسرة في هذا الدور، والاستفادة من الخبرات المحلية في تطوير المناهج، من خلال ورش عمل ولقاءات مع أولياء الأمور والمثقفين.
- استخدام التقنيات. إن التقنيات هي العامل المشترك بين كافة ساكني هذا الكوكب، حيث توفر سبل الاتصال والتواصل الفعال حيث يمكن الاستفادة منها لعرض الثقافة المحلية، مثل إنشاء محتوى رقمي يعكس التراث الثقافي. كما يجب العمل على التوازن في التقييم من خلال تصميم أدوات تقييم تأخذ في الاعتبار الفهم الثقافي.
إن خطر غربنة المناهج سوف يؤدي حتما إلى فقدان الهوية الثقافية، وعدم فهم الطلبة للمحتوى التعليمي، كما يؤدي إلى قد شعور الطلبة بالانفصال عن مجتمعهم، مما يقلل من مشاركتهم الفعالة في القضايا المحلية. ولعل من أخطر نتائج غربنة المناهج؛ هو عدم توازن القيم المجتمعية، بل قد تؤدي إلى تعزيز قيم معينة قد تتعارض مع القيم المحلية.
إن الاضرار الناتجة عن غربنة التعليم والاعتماد على المعايير الغربية فقط وعدم إيجاد البدائل المحلية التي توضح الهدف المطلوب من التعليم على كافة المراحل والمستويات واستراتيجيات تحقيق هذه الأهداف، هو أعمق بكثير من وسم المجتمع بالجهل أو التأخر العلمي.