«الجزيرة» - الدوليات:
أصدرَ المعهد الدولي للدراسات الإيرانية «رصانة» تقريره الاستراتيجي السنوي التاسع لعام 2024 - 2025م، بعنوان «عولمة الأزمات وتعقيد الصراعات» في 255 صفحة، وهو الإصدار المتواصل منذ تسعة أعوام، إذ صدرت نسختهُ الأولى في ديسمبر 2016م. ودرجَ التقرير على أن يأتي موثَّقًا بالمعلومات والإحصاءات، ومدعَّمًا بالجداول والأشكال والخرائط والرسوم التوضيحية، والرصد والاستقراء والتحليل والاستشراف المستقبلي للعام 2025م، في محاولة لفهم التغيرات المتوقعة وتطوراتها. وتميز هذا التقرير، باتساع الرؤية الجديدة تبعًا لاتساع دوائر الاهتمام، وقضايا التناول.
وتناول التقرير عدة محاور كبرى، فعلى صعيد التطوُّرات في البيئة الدولية، شهِدَت الساحة العديد من التطوُّرات على مستوى المؤسَّسات الدولية، وكذلك على مستوى التفاعلات بين القُوى الكُبرى، فضلًا عن تطوُّرات مهمَّة على الصعيد الاقتصادي والأمن غير التقليدي.
ففيما يخصُّ الولايات المتحدة وإشكاليَّة الهيمنة على القيادة الدوليَّة، فإنَّ التطوُّرات تُشير إلى أن العام 2025م ربما يكون استمرارًا لحالة الارتباك الدولي في عصر المنافسة، وبناءً على ذلك فإنَّ الولايات المتحدة بوصفها القوة الدوليَّة المهيمنة الأكثر تأثيرًا في النظام الدولي، ستعملُ على استيعاب التحوُّلات الجارية على الصعيد الدولي، مع محاولة تأكيد أهليَّة النظام القائم للتعامل مع الأزمات، باعتباره النظام الذي أرست قواعده، ومع عودة ترامب وتبني نهج يستندُ إلى القوة في تشكيل المشهد العالمي، فمن المتوقَّع أن يُضفي ذلك مزيدًا من الغموض على أهليَّة المؤسسات الدوليَّة والاتفاقيات الجماعية في ظلِّ نهجه الانعزالي وفي سياق المنافسة الدوليَّة أيضًا، وما يتعلَّق بتعقيد الصِّراع أمام بكين في الإندوباسفيك، فقد شهدت هذه المنطقة عامَّة والقضية التايوانية خاصَّة، تصعيدًا خطيرًا على خلفية النَّزعة الانفصاليَّة والتصعيديَّة الجريئة للرئيس التايواني الجديد لاي تشنغ تي المدعوم أمريكيًا، ضد مبدأ «صين واحدة ونظامان»، مقارنةً بمستوى التصعيد أثناء فترة حكم الرئيسة السابقة تساي إنغ وين، ما أثار غضب السُّلطات وقلقها في بكين، واعتبرت خطابه بمنزلة برنامج عمل تنفيذي لاستقلال تايوان خلال فترة حكمه.
كما تبنَّى الجانبان الأمريكي والصيني سياسات تطويقيَّة متبادلة ضمن الصِّراع البيني على القيادة الدوليَّة وطبيعة النظام الدولي؛ أما على صعيد الحرب الروسية - الأوكرانية، فتدخل مرحلةً جديدةً في عام 2025م بعودة ترامب للرئاسة الأمريكية، حيث يُستبعد أن يتمكَّن ترامب من إنهاء الحرب مباشرة بعد تسلُّمه السُّلطة، وفق توجُّهاته في الحملة الانتخابيَّة ستستمر أوكرانيا في التَّراجع مقابل مواصلة روسيا تمدُّدها في الشرق الأوكراني، وسيسعى القادة الأوروبيون لتوحيد مواقفهم تجاه سياسات ترامب المنتظرة؛ وفيما يخصُّ تطوُّرات الاقتصاد العالمي، تظلُّ آفاق النمو ضعيفةً في العام الجديد مقارنةً بما قبل جائحة كورونا، خاصَّةً في الاقتصادات الصناعية الكُبرى، بجانب ضعف الثِّقة في سرعة استعادة الاقتصاد الصيني لعافيته؛ وبالتالي احتمالية نمو اقتصادي عالمي متواضع بحدود 3 %، ومن ناحية أخرى أثبت الذكاء الاصطناعي العديد من الفوائد الاقتصادية، لكن في مقابلِ خلق تحدِّيات اقتصاديَّة وأمنيَّة وحتى أخلاقيَّة.
على صعيد آخر يستمرُّ الصِّراع التجاري الأمريكي-الأوروبي تجاه الصين في التوسُّع، خاصَّةً في المجالات الحيوية كالطاقة البديلة، وأشباه الموصلات وبالنسبة للتطوُّرات الخاصَّة بقضايا الأمن غير التقليدي، فالشاهد أنَّ التكنولوجيات التخريبية تطوَّرت بشكلٍ أسرع مما كان متوقعًا؛ مما أدَّى إلى تفاقم التحدِّيات القائمة بالفعل لصُنَّاع السياسات.
وتشارك القوى العظمى في سباق تسلح الذكاء الاصطناعي والأسلحة السيبرانية، وهو ما يتطابق مع عصر تطوير الأسلحة النووية في الخمسينيات والستينيات، وسيجعل العام 2025م العالم أقرب إلى التطوُّرات المبهجة، وكذلك التحدِّيات على حدٍ سواء.
وعلى صعيد تطوُّرات الحالة الدينية في العالم الإسلامي ونشاط التيارات الأصولية، سعت بعض المؤسسات الدينية الرسمية كالهيئات الدينية السعودية إلى تعزيز السِّلم العام والحوار بين المذاهب، ونبذ التكفير والتعصب بين أهل القبلة، ومن المرجَّح أن تستمر تلك المؤسسة في النهج الوسطي المعتدل ذاته، في حين واجهت مؤسسات دينية أخرى غير سعودية بعض التحدِّيات المتعلقة بالسياسة والمجتمع، ويتوقَّع التقرير أنَّ العام 2025م، رُبَّما يكون استمرارًا لحالة الارتباك الدولي في عصر المنافسة؛ وبناءً على ذلك فإنَّ الولايات المتحدة، ستعمل على استيعاب التحوُّلات الجارية على الصعيد الدولي، التي تستهدف مراجعة هيكل القوَّة العالمي والقيادة الأمريكية.
أمّا بالنسبة للتطوُّرات في البيئات الإقليمية، فقد تناول التقرير الاستراتيجي للعام 2024م بالتحليل سبعة موضوعات ذات تداعيات مهمَّة على حالة السِّلم والأمن الإقليمي والدولي، وعلى سياسات الدول الكُبرى والصُّغرى على السواء، وانعكاسات ذلك على أمنها واستقرارها، إذ ناقش الموضوع الأول «تعقيدات الحرب في غزة»، حيث تواصلت الحرب على القطاع، وازدادت تعقيدًا نتيجةً لنزوع الحكومة الإسرائيلية نحو التصعيد، في مقابل إصرار الفصائل الفلسطينية بقيادة «حماس» على مطالبها ومواصلتها للمقاومة في 2024، وتناول الموضوع الثاني «التحوُّلات الجيوسياسية في سوريا ولبنان» بإضعاف قدرة «حزب الله» اللبناني وتصفية قياداته العسكرية والسياسية، وتمكُّن المعارضة السورية المسلحة من إسقاط النظام السوري برئاسة الرئيس السابق بشار الأسد، وتمكُّن إسرائيل من التوسُّع الجيوسياسي في سوريا، ثمَّ تداعيات تلك التحوُّلات الجيوسياسية على مستقبل المشروع الجيوسياسي الإيراني، وعلى بقية ساحات النفوذ، ويُتوقَّع استمرارية التطوُّرات الجيوسياسية الإقليمية خلال عام 2025م. وفيما يتعلَّق بالموضوع الثالث «دول الخليج»، فقد واصلت دول الخليج جهودها الجماعية لتحييد مخاطر الصِّراع المشتعل في الشرق الأوسط، للحدِّ من آثارها على أمن المنطقة واستقرارها، ولذلك حشدت المملكة الدول في المنظومة العربية والإسلامية للتركيز على حلول المبادرة العربية للسلام، وتواصل السعودية مع الفواعل الإقليميَّة والدوليَّة دورها لتسوية الصِّراعات وتشكيل التَّحالف الدولي لتنفيذ حلِّ الدولتين، ورفض التطبيع قبل قبول إقامة دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967م، وفي ظلِّ وصول قيادة أمريكية جديدة، فإنَّ دول الخليج ستسعى بلا شك خلال العام 2025م، إلى التعامل بإيجابية مع هذه الحكومة.
أما الموضوع الرابع «مقاربة تركية جديدة تجاه التَّحالفات الإقليميَّة والدوليَّة»، فقد لجأت أنقرة إلى صياغة مقاربات جديدة من شأنها معالجة التحدِّيات في الداخل من ناحية، وتُسهم في ترسيخ تركيا كلاعب إقليمي وعالمي محوري من ناحية أخرى، ويُتوقَّع استمرارية السياسة التركية في تنويع البدائل الخارجية للعام 2025م، كما ينتظر العلاقات الأمريكية-التركية فصلٌ جديد من تعزيز العلاقات.
وفيما يخصُّ الموضوع الخامس «التوجهات الجماعية لدول آسيا الوسطى والقوقاز»، فقد استمرت دول آسيا الوسطى والقوقاز في تنويع سياساتها الاقتصادية والأمنية، في خضمِّ الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى جانب موازنتها العلاقات مع روسيا والتعامل مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومن المتوقَّع خلال عام 2025م، أن تزيد دول آسيا الوسطى بشكل جماعي، من تعاونها مع القوى الكبرى الصَّاعدة مثل الصين والهند.
أما الموضوع السادس «أفريقيا المضطربة بين أزمات الدَّاخل ومشاريع الخارج»، فقد شهدت أفريقيا خلال العام 2024م سلسلةً من الأحداث والتطوُّرات، التي ألقت بظلالها على عموم الأوضاع في هذه القارة، وفي ظلِّ هذه التطوُّرات التي شهدتها أفريقيا، يُتوقع أن تستمر الاضطرابات السياسية في القارة خلال 2025م، مع احتمالية حدوث انفراجه في بعض الأزمات، وذلك في ظلِّ الجهود الدوليَّة والإقليميَّة لحلحلة بعض هذه الأزمات.
وفيما يتعلق بالتنافس الصيني-الأمريكي في القارة الأفريقية، يُتوقَّع أن يبلُغ أشدَّه في أفريقيا، خاصَّةً بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
ويُحلَّل الموضوع السابع، «تداعيات أزمة بنغلاديش على الجنوب الآسيوي» حيث تعرَّض الجنوب الآسيوي لحالة من عدم الاستقرار على خلفية موجة الفوضى التي شهدتها بنغلاديش، نتيجةَ اضطرار رئيسة حكومتها الشيخة حسينة إلى الفرار للهند على خلفية اقتحام المتظاهرين لمقر إقامتها جرَّاء الاحتجاجات الحاشدة ضد حكمها، الذي دامَ لنحو عقد ونصف من الزمان، ويقف وراء الأزمة العامل الخارجي أكثر من العوامل الداخلية؛ إذ تُشكِّل بنغلاديش نقطةً محوريةً للتنافس بين الأقطاب الدولية، لذلك سعت الصين لحماية المصالح فيها عن طريق ربط تعاونها مع الدولة لا مع النظام، وسعت الهند لتعزيز حضورها في بنغلاديش كرد فعل على تصاعد الدور الصيني، وتنظُر الولايات المتحدة لبنغلاديش من منظور أهميتها في المساهمة في تطويق الأقطاب المنافسة، وبما أن الأزمة في بنغلاديش جاءت بعض أبعادها كنتيجة مباشرة للتنافس بين الأقطاب الدولية على القيادة العالمية، فإنَّ اتجاهات أزمات الجنوب الآسيوي خلال العام 2025م، ترتبط إلى حدٍ كبير بشكل السياسات التي يتبناها الرئيس المنتخب دونالد ترامب تجاه منطقة الإندوباسفيك، وكيفية الموازنة بين سياسات تطويق الصين ومصالح الحلفاء، مثل الحليف الهندي؛ وبالتالي فالتَّنافُس في الجنوب الآسيوي سيكون متوازنًا، ولن يُفجِّر صراعات مقارنةً بالملفات الأكثر اشتعالًا بين الولايات المتحدة والصين كالأزمة التايوانية.
ومن منظور التقرير، يمكن استمرارية التطورات الجيوسياسية الإقليمية خلال 2025م، لصعوبة عودة إيران للساحات التي خسرتها، لوجود عِدَّة تحدِّيات أمامها.
وعلى مستوى المحور الثالث، الذي يُناقش اتجاهات السياسة السعودية، يتناول التقرير الاستراتيجي أداءَ الاقتصاد السعودي بين النفط والموارد المتجدِّدة، مع مواصلة المملكة تنويع اقتصادها؛ وشهد قطاع التقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي عام 2024م تقدُّمًا على أثر الاهتمام الكبير الذي تُوليه له الدولة؛ فقد ارتفعَ حجم الاقتصاد الرقمي في المملكة من 298 مليار ريال إلى 460 مليار ريال، وفي المجال الدفاعي يستمرُّ السعيُ الحثيث نحو تعزيز الكفاءة العسكرية للقوات المسلحة والقدرات القتالية، وهو ما يتَّضحُ من ازدياد توطين التصنيع العسكري، وفي حجم التدريبات العسكرية، وعدد الاتفاقيات، والمعاهدات الدفاعية والعسكرية التي أبرمتها المملكة خلال العام، وفي القطاع الرياضي كان أهم ما حصدتهُ رؤية 2030، إعلان الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في 11 ديسمبر 2024م، عن فوز المملكة منفردةً باستضافة بطولة كأس العالم للعام 2034م، ولم يكن ذلك سوى تكليلًا لجهود السعودية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والرقمي والثقافي في السنوات الماضية.
وفي مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، كان نهج المملكة هو الدفاع عن القيم الإسلامية، ومبادئ القانون الدولي، وتكريس التوازن في العلاقات الدولية، وهو ما برز في موقف المملكة من القضية الفلسطينية، وفيما يتعلق بدول الأزمات العربية، فقد دعمت السعودية الخيارات السِّلمية ومبادرات الوساطة في مختلف الدول العربية المأزومة، فواصلت رعاية الوساطة في الأزمة السودانية، واستأنفت جهودها لتحقيق الاستقرار في اليمن ولبنان وليبيا، ووقفت إلى جانب الشعب السوري في التغيير السِّلمي، داعمةً لخياراته في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ سوريا.
وعلى صعيد البحر الأحمر، كان لافتًا إطلاق ولي العهد، الاستراتيجية الوطنية لاستدامة البحر الأحمر، الهادفة لحماية النظام البيئي للبحر الأحمر، وتعزيز أُطر التعاون لاستدامته، وعلى الصعيد الإقليمي أيضًا، واصلت المملكة تعزيز منظومة «مجلس التعاون الخليجي» باعتبار المجلس دائرة الانطلاق الأساسية للسياسة السعودية، وعزَّزت علاقاتها مع الدول العربية ومع دول الجوار الإقليمي (إيران وتركيا وإثيوبيا).
وعلى الصعيد العالمي، استضافت المملكة الكثير من الفعاليات الدولية. ويستشرف التقرير في العام 2025م، استمرارَ روح المسؤولية السعودية تجاه مستقبل الخليج والعالم العربي والشرق الأوسط باتجاه الطموح الكبير بخفض التصعيد وإنهاء الحروب في الإقليم، مع إمكان لعِب السعودية دورَ وساطة حضارية في ملفات إقليمية كُبرى وبين دول مختلفة، لإعادة الإقليم العربي والشرق أوسطي إلى حالة الاستقرار والأمن.