د.محمد بن عبدالرحمن البشر
يمكن القول إن أقدم نصيحة وصلت إلينا تلك النصيحة المنسوبة لأحد وزراء مصر القديمة التي كانت تسمي كيميت أي الأرض السوداء، وقد أسداها هذا الوزير إلى ابنه بعد أن شاخ، وترك العمل، وأراد ألا يشيخ ذكره ويبقى آلاف السنين، وهو الذي قد عاش قبل نحو أربعة آلاف وثمانمائة عام، وتناقلتها الأجيال، ووصلنا منها نسخ مكتوبة على ورق البردى بعد موت الحكيم بمئات السنين، والحديث عنها يطول، وقد نعود إليها في مقال لاحق، فهي تمثل تراثا رائعاً يعطي البشرية إفادة واحدة على أن طبائع الإنسان وأحاسيسه وطموحاته ثابتة، لكنها تسمو او تتشوه عبر السنين طبقاً للبيئة المحيطة، فمثلاً في الحقبة الجاهلية كانت البيئة مليئة بالسلوك الخاطئ، إلى أن جاء الإسلام وهذب الكثير منها، وحث على ما كان صافياً نقياً ونهى عما كان خاطئاً، فرسول الهدى صلى الله عليه وسلم جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ومن يقرأ التاريخ لابد أنه قد أطلع على نماذج كثيرة من التحولات السلوكية في المجتمعات، طبقاً لمعطيات معينة.
اسم ذلك الوزير ابتاح حتب، وكان وزيراً للملك او الحاكم اسيسي من حكام مصر القديمة، وعلينا أن نعرف انه ليس من المؤكد أن ما وصلنا هو ما نطق به، لأنها وصلتنا في ثلاث نسخ في فترات زمنية متلاحقة يفصل بينها مئات السنين، ولم تكن متطابقة في نصوصها والفروق بينها كبيرة، وقد بدأ نصائحه بوصف حاله في المشيب، وكان يتحدث بذلك إلى الملك ويشرح ما يعاني، فيذكر أن الألم ألم بجميع الأعضاء، وانقلبت القوة إلى هزال، وصمت اللسان، وغارت العينان، وقل السمع، وأضحى القلب كثير النسيان، والعظام تتألم، والنفس يضيق، والقيام والقعود كلاهما مؤلمٌ، ولم تعد رائحة الطيب تذكي الوجدان، كل ذوق قد ولى، فكبر السن يجعل المرء ضعيفاً في كل شيء.
هذا كلام جميل لوصف حال الشيخوخة، قاله وزير لملك قبل خمسة آلاف سنة إلا قليل، وما أعجبني أكثر قوله أن القيام والقعود كلاهما مؤلم، وهذا واقع حال من كبر عمره، وآلمه ظهره، وخشنت ركبتاه، وضعفت يداه، ووهن جسمه، وتراه إذا جلس في الصلاة للتحيات رفع عقيرته قبل رأسه، واستند على أطراف يديه عند القيام، إلا إذا جلس على كرسي يجنبه النهوض من السجود.
وقد طلب الوزير من الملك أن يسمح له باستخدام العكاز، وهنا تتجلي حصافة الوزير، فهو لا يريد أن يدخل على الملك بعكاز دون أن يستأذنه أولاً، فسمح له الملك بذلك، ثم قال سوف أعلمه أفكار من سلف، ولباقة الحديث مع معاصريه، ثم طلب من الملك أن يسمح له بإسداء نصائح لابنه حتى يكون في خدمة الملك مثل ما كان هو يخدمه، فأجازه الملك على ذلك، وأمره أن يعلمه الطاعة حتى يكون من عظماء زمانه، ولا شك أن الطاعة والولاء من أهم الصفات في مجال الخدمة، وهي أساس للاستقرار، وطريق للنجاح، ومفتاح للتقدم، ولاشك أن العلم والمعرفة سلاح هام لتجاوز الصعوبات، وفتح أبواب ربما كانت موصدة، والوصول إلى الغاية بأيسر السبل.
من المؤكد أن هناك شعراء وأدباء قد كتبوا الكثير قبل الوزير ابتاح حتب، لكن ذلك لم يصل إلينا، لضياع هذه الكنوز خلال آلاف السنين المتعاقبة، ولولا نخبة من المميزين الذين حفظوا لنا قليلا جداً من هذه الكنوز المعرفية لما عرفنا عن إبداعات أولئك الأقوام الرائعين.