حسن اليمني
هل نحن في حاجة إلى مشروع فلسفي جديد للفكر العربي كما قد يبدو من كتاب الدكتور محمد جابر الأنصاري (الفكر العربي وصراع الأضداد) أم أننا فعلا دخلنا مرحلة فكر عربي جديد بعد سقوط أو أفول أيدولوجيات عاشها الوطن العربي منذ عهد النشأة للدولة العربية؟
أعتقد أن الأفكار الأيدولوجية وفلسفة الحركة الاجتماعية ليست إلا نتيجة معطيات أحداث تجمعت على مختلف أنواعها حرب وسلام تتشكل بطريقة تداخل العناصر مع بعضها على الطريقة الكيمائية لتعطي منتج فكر اجتماعي لا يكون بالمنتج الطبيعي متساويا أو متوافقا مع بعضه بحكم تمايز مستويات الوعي والإدراك، وهذا لا ينفي بالطبع أثر نتاج الفكر والفلسفة على الوعي الجمعي لكن هذا الأثر يختلف حسب المنظومة الاجتماعية وتركيبة نظامها السياسي، على سبيل المثال نرى أن محاضرة من المفكر اليهودي «برنارد لويس» في إحدى جامعات شيكاغو رغم أنها تحولت إلى استراتيجية للسياسة الأمريكية إلا أن حركات مدنية - حقوقية وإنسانية اجتماعية - ناهضت هذه السياسات بالنزول إلى الشوارع والميادين احتجاجا على دعم وإسناد الولايات المتحدة الأمريكية للكيان المحتل في حربه ضد العراق وأيضا فلسطين الذي نشاهده اليوم، وبالتالي فإن مجريات الأحداث تنتج «الماجريات» وتخلق الأفكار الأيدولوجية أكثر من الفكر النخبوي بنسبة كبيرة، أما قوة الفكر النخبوي فإنها تكمن في مدى خدمتها للسياسة أكثر، لهذا نرى تسويق النظم السياسية للفكر الخادم لغاية توجيه الرأي الجمعي أو العام بينما نرى أن الفكر المستقل وبرغم تنحيته والتعتيم عليه يؤثر بشكل أكبر في الطبقة الاجتماعية المتوسطة والأقل أكثر من أثر تلك النخبوية المسوقة لخدمة السياسة التي في النهاية ينتج أيدولوجيات متضادة.
لقد كتب الكثير من المثقفين عن هذه النقطة المهمة في التحول الفكري العربي مثل الدكتور جابر الأنصاري وبول سالم والسيد ياسين وغيرهم الكثير، اليوم لا أحد يرفع شعار القومية العربية ولا البعث الاشتراكي ولا كل مسميات اليسار وحتى اليمين الأصولي صار يندحر ويختفي وإن بقيت منه بقايا للاستخدام الأجنبي مثل «داعش» لكن بصورة عامة يبدو أننا في الوطن العربي خرجنا من تلك الأيدولوجيات الفكرية الفلسفية والتي تحمل شعارات جميلة وجذابة تدغدغ الوجدان للإنسان العربي ولكن لا تتفق مع فهمه وثقافته وجذور هويته إلى الواقعية التطبيقية أو ربما نقول إننا أمام محاولات البحث الجاد عن تحقيق الذات والهوية بجيل جديد مختلف بفكره وفلسفته عن التجارب القديمة وخارج عنها وإن كان في الوقت نفسه متمسكا بآلياتها وأدواتها، بما يعني أنها مرحلة – جسر عبور – لواقع أكثر تقدما.
بسقوط الاتحاد السوفييتي سنة 1994م تزعزع اليسار العربي وحاول اليمين الأصولي الديني تسيد الواجهة ودخل في صراع وجود وصل ذروته في احداث سبتمبر 2001م وانتهى فعليا بسقوط الإخوان المسلمين عام 2013 م لتبدأ مرحلة الأقليات العرقية والطائفية والمذهبية إلى أن التقت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية مع أبو محمد الجولاني في دمشق لتبدأ مرحلة جديدة باسم أحمد الشرع بدلا من اسمه الحركي، حتى وان كان هذا الانبثاق الظاهر في الصورة لهذه المرحلة في واقعية المشهد السوري الجديد الذي يؤكد في كل مرة تقاربه وتجانسه ورغبته في الانصهار مع تضاريس الجيوسياسية في المنظومة العربية واتجاه مسارها بما يعطي انطباعا بتشكل عهد جديد خارج مغناطيس تلك الأيدولوجيات يمين ويسار، ولعل الوقت ما زال مبكرا للوصول لعنوان أو وصف لهذا العهد العربي الجديد.
إن أثر أي أيدولوجيا لا يتوقف على الفكر السياسي ونتاجه وإنما ينبسط على فكر وثقافة المجتمعات بمستويات وعيها ومدى مستويات هذا الوعي، كما أن هذه الأيدولوجيات مع المعتقدات والأديان مثل النار للفراش في الاقتران والتضاد، وأن الانحباس داخل محيط دائرة هذا القران والتضاد لا يمكن أن يصل إلى نهاية لصالح طرف من أطرافها إلا بشكل مؤقت ومرحلي، وإن الخروج من محيط هذه الدائرة يعطي سعة في المدى والأفق لإعادة التكوين بمجسمات العصر وآفاق مستقبله المحتمل، وهذا فيما يبدو أن الظروف تتهيأ له وتأخذنا إليه، وبإمكاننا أن نرى تراجعا في تطرف الأفكار المهزومة أو المستلبة لتلك الأفكار والأيدولوجيات المتضادة في جانبي الإفراط والتفريط، وبعض الإشارات لهذا ربما رأيناه في طبيعة ومضمون اللغة التي ظهرت من قيادات الثورة السورية بعد الانتصار على النظام البعثي البائد، لغة جديدة يستطيع المتابع أن يستشف من ورائها إشارات واضحة لقدوم فكر ورؤية جديدة مختلفة جدا في الابجديات والرؤى.
أعتقد أننا فعلا نتأهب للدخول في مرحلة نهوض حقيقي ينطلق من اس قواعد هويتنا وإرثنا وتاريخنا باستخدام المنطقية الواقعية المشبعة بالمعطيات والمجريات الفعلية التي تبلور الفكر وتفلسف نظرياته العقلانية الخاصة به فعلا لا تلك المستندة إلى أيدولوجيات بينها وبين الواقع ما بين السماء والأرض، على أن هذا أيضا لا يعني التأمين على صحة هذا الرأي بشكل تام، باعتبار ان لقوى عالمية إثرا كبيرا في تشكيل هذه المعطيات التي أنتجت هذا الاتجاه، وهذا واضح وليس خفيا، خاصة وأن تصادم محتمل بين الشرق والغرب قد يكون استدعى تعديلا في السياسات المتبعة لهما في الشرق أو الغرب الأوسط لغايات واستراتيجيات أبعد، وفي أحد نبوءات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري رحمه الله (ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية) وقد حدث شيء من ذلك إبان حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي وما أن خرج السوفييت حتى دخلت أمريكا أفغانستان ومن بعده العراق، وإلى أن وصلنا اليوم لاحتمال تصادم الشرق بالغرب، ولكن صاحب هذا في الجانب الآخر - الفكري والثقافي - سواء كان سياسيا أو اجتماعيا إلى أفول أو على الأقل انكماش في الأيدولوجيات الفكرية التي أرهقت الأمة العربية من كلا جانبيها - يسار ويمين – إلى نقطة الاعتدال أو بهذا الاتجاه بما يشير إلى اتساع مساحة الوعي والرؤية سياسة واجتماعا وثقافة واعتقادا، وفي الغالب تنهض الأمم من براثن المحن، وليس بعد ذلك إلا أن نقول التفاؤل جيد والحذر واجب.