تأتي الصناعات اليدوية عملاً مميّزاً اشتهر به الأهالي في المملكة العربية السعوديّة قبل قيام الصناعات الحديثة، حيث كانوا يصنعون حوائجهم المنزليّة، وأدوات عملهم بأنفسهم؛ وكانت صناعاتهم على الرغم من بدائية أدواتها وأساليب تحضيرها، تتميّز بالجودة العالية والمتانة، حيث استخدمتها الأجيال المتلاحقة بكفاءة في إنجاز الكثير من الأعمال الحياتية داخل المنزل وخارجه. وكانت المهن متوارثة من الجد والأب تسلسلاً، حيث عدّت مصدر دخل وعملاً شريفاً يقتات من خلفه؛ لذا فقد كنيت بعض العوائل بأسماء المهن، كعائلة الصائغ والحداد والنحاس وغيرها.
وقد كان لاتساع المساحة الجغرافية للمملكة العربية السعودية واختلاف لهجات الأهالي بها الأثر في تباين مسميات مهن ساكنيها من الحرفيين. فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة الحداد التي درج على استخدامها في المنطقة الغربية، قد وافقتها كلمة (الصانع) في منطقة نجد، بمعنى أنّه كان لكل منطقة معجمها الخاص بها الذي يكني الحرف والمهن تبعًا لما هو متعارف عليه بين الأهالي والسكان.
وإلى جانب اختلاف المسمّيّات، كان هناك اختلاف في نوعيّة المهن والحرف من منطقة إلى أخرى تبعًا للبيئة ومعطياتها، فكان من مهن أهل البحر صناعة الشباك والأقفاص، في حين امتهن سكان الصحراء صناعة الصوف وأدوات القهوة وغيرها. إلى جانب ذلك كانت بعض المنتجات تنسب في مسمّاها لمنطقة صناعتها كالنعال الزبيرية، التي تنسب إلى الزبير، أو المزوية الجوفية التي تنسب إلى الجوف التي اشتهرت بشتائها البارد.
وكانت الموادّ الخام التي تدخل في الصناعات المحلّيّة من قبل الحرفيين، تأتي إمّا موادّ مستوردة أو ممّا توفّره البيئة المحلّيّة. وكانت الصناعات تتوزّع على المناطق تبعًا لنوعية الموادّ الخام المتوافرة. فحيث يوجد الحجر الرمليّ الذي يكثر في المنطقة الشمالية مثلًا نجد صناعة (النجر) الحجري، الذي تتميّز به المنطقة ويعدّ من أجود وأشهر منتجاتها؛ وكذلك بالنسبة للمصنوعات الخوصيّة التي تميّزت بها منطقة الأحساء في المنطقة الشرقية نظرًا لوجود شجر النخيل في تلك المنطقة.
وقد اشتهر الصناع والحرفيون السعوديون منذ القدم بأساليبهم وطرائقهم في معرفة جودة المواد الخام التي كانوا يستخدمونها في صناعاتهم، فقد كانوا مثلًا يختبرون نوعيّة الحديد بتسخين القضيب لدرجة حرارية عالية، ثمّ يعمدون إلى غمسه بالماء، فإذا انكسر حدّدوا نوعه ومدى جودته ومجالات استخدامه. وكذلك كانوا يفعلون في حالة اختبار نوعيّة الخوص المستخدم في صناعة (المحافر) والتي كان يجلب بها الرمل من قاع البئر، فقد توصّلوا من خلال الممارسة والتجربة إلى أن خوص ذكر النخيل أجود وأصلب من خوص أنثاه. وقد عملت تلك الخبرات ومع مضي الوقت، على تأصيل مفهوم الحرفة في الوسط المهني الشعبيّ بشكل عام، وفيما يلي استعراض شامل لأبرز المهن والحرف اليدوية التي عرفها المجتمع السعودي في السابق، والتي كان لها أثرها في قيام نشاطات اجتماعية واقتصادية مميّزة في المجتمع السعوديّ وبشكل مؤثّر:
أولاً: صناعة الخزف والفخار
وهي من الحرف القديمة التي عرفها أهل الشرق بشكل عام، حيث كان يعتمد على الفخّار في تصنيع الكثير من حوائج المنزل من قلال، وجفان، وغيرها. وقد وجدت قطع من الفخار في أماكن عدة من الجزيرة العربية يعود بعضها إلى العهد العبيدي قبل 4000 سنة تقريبًا. وحرفة صناعة الفخار في المملكة العربية السعودية حرفة شعبية قديمة، اعتمد في صناعتها على مادة الطين، فكان الحرفي يعمل على تصنيع هذه المادة وتشكيلها إلى أوانٍ متعدّدة الأشكال والأحجام، كما كان يزخرفها ويجملها بوساطة يديه وباستخدام أدوات بسيطة، ثمّ يقوم بحرق تلك الأواني لتجف ولتكون صلبة وجاهزة للاستعمال والاستخدام من قبل الآخرين.
وعادة ما كانت تتمّ عمليّة تشكيل وتصنيع الفخار بوساطة آلة تسمّى (دولاب الفخار)، حيث كان الصانع يعمل على تحريكه بوساطة قدميه، في حين يستخدم مشطاً خشبيّاً بيديه؛ لزخرفة الطين أثناء عمليّة التشكيل. وقد انتشرت هذه الصناعة سابقًا في بعض المناطق الحضرية في المملكة العربية السعودية خاصّة في مناطق الأحساء والمدينة المنورة ومكّة المكرمة.
وعادة ما كانت تجلب عيّنة طين الفخّار من أماكن خاصّة، حيث يتمّ حفر الأرض بعمق يصل إلى المترين تقريبًا لاستخراج تلك العيّنة، ومن ثمّ يحمل الطين إلى مكان تصنيع الفخّار، ليعالج هناك بطريقة معيّنة تضمن بقاءه طريًّا سهل التشكيل، ويأخذ منه الحرفيّ حاجته عند بدء تصنيعه للآنيّة، في حين يستبقي الكمّيّة الأخرى في مكان الحفظ، وذلك لاستخدامها في التصنيع والتشكيل مرّات أخرى.
ولمنتجات الفخّار أنواع واستخدامات عدّة، عرفها الأهالي في المملكة العربية السعودية، وتعاملوا معها لسنوات طوال، قبل أن تستبدل بالأواني البلاستيكية والمعدنية التي أنتجتها الحضارة المدنية مؤخّرًا. ومن ضمن تلك المنتجات الفخّارية على سبيل المثال:
- القلّة: والتي كانت تستخدم لنقل الماء وحفظه وتبريده.
- الزير: وهو من أرق الأواني الفخارية وأجودها، ويستخدم كما هو معروف لحفظ الماء.
- التور: وهي القدر الكبيرة ذات الفوّهة الضيقة، وتستخدم لطبخ اللحم.
- الجعل: وهو إناء فخّاري أصغر من التور، وكان يستخدم لترويب اللبن، وتخمير العجين.
- المصبّ: وهو إناء صغير ذو عنق جانبي، وكان يستخدم لحفظ السوائل الغذائية وسكبها.
- المجمر: وهو إناء يتّخذ لحمل الجمر الذي يحرق عليه البخور.
- القصعة: وهي إناء فخاري كان يستخدم في السابق لحفظ الزبدة.
- البرمة: وهي قدر فخاري يستخدم للطبخ، ويشبه التور إلى حدّ ما.
- التنور: وهو المكان الفخاري الذي يصنع فيه الخبز، ويسمّى في بعض مناطق الجنوب باسم (الميفا).
- الكانون الفخاري: وهو المكان المخصص لوضع الجمر فيه بغرض التدفئة المنزلية.
ثانياً: صناعة القطران
وهذه الحرفة من الحرف العامة التي مورست في كافة مناطق المملكة، وكانت سائدة حتى وقت قريب. ويستخرج القطران بوساطة (المقطر) وهو عبارة عن بناء دائري الشكل، يبنى على أرضية صلبة، ملحق به حوض من الفخار أو الصاج المغطى بطبقة من الطين المخلوط بالتبن. وللمقطر فتحتان.. الأولى علويّة وهي التي تؤدّي إلى حوض المقطر.. والأخرى جانبيّة وتغلق بالطين ولا تفتح إلا عند استخراج القطران.
أما عن طريقة صناعة القطران وكيفيّتها، فتتمّ باستخدام أشجار العتم، أو الطلح، أو السمر وغيره، حيث تجمع جذوع الشجر بعد أن تشذّب وتقطع إلى قطع صغيرة جدًا، وتوضع في صفيحة معدنيّة تكفأ على سطح المقطر، وبعد أن تشعل النار في تلك القطع تنبعث الغازات والأبخرة إلى سطح الصحيفة ثمّ تتجمّع لتسقط في حوض المقطر من خلال الفتحة العلوية للمقطر. وبعد أن تنطفئ النار، ويبرد المقطر، يفتح الثقب الجانبي للمقطر ويجمع القطران بوساطة مغارف ذات مقابض طويلة تعدّ لهذا الغرض.
ويستخدم القطران عادة كوقود، أو كعلاج لبعض الأمراض الجلدية الخاصة بالحيوانات (كالجرب)، وكذلك لطلاء الأواني الخشبية، والصحاف، والمصنوعات الجلدية كالقرب، فضلًا عن طلاء الأواني الفخارية.
وقد استعيض عن القطران حاليا بالوقود البترولي ومشتقاته، وبالأدوية الطبية المختلفة، ولم تعد تلك المهنة قائمة كما كانت، إذ لجأ أصحاب هذه الحرفة المتوارثة إلى توجيه أبنائهم إلى مهن وحرف أكثر مواءمة مع روح العصر.
ثالثًا: صناعة الدباغة
وهي مهنة تعتمد بالأساس على جلود الحيوانات، وبخاصة جلود الماعز، والبقر، والإبل، والضأن، ويستخدم فيها نبات يدعى (الحَدَق) الذي يعطي ثمرًا يشبه حبّات المشمش، إلا أنّه مرّ المذاق، وبداخل كلّ ثمرة مادّة إذا ما سكبت على الشعر أزالته سريعًا.. وعادة ما يوضع الجلد بعد أن يزال عنه الشعر في حوض مائي مع نبات (الشت) الذي يحتوي على مادة ملينة ومحللة، فيجفّف أوّلًا، ثمّ يدقّ حتى يصبح طحينًا، ويوضع مع الماء في الحوض حتّى تتفكّك جزيّئاته، ويثبت على درجة من التماسك والطواعية، ثمّ يضاف إليه شيءٌ من اللبن والزبد والدقيق ليصبح لدنًا ليّنًا. بعد ذلك يصبح الجلد جاهزًا للصناعة والتشكيل.. ليستخدم في صناعة الأثاث والملبس والقرب الجلدية وغيرها.
رابعًا: صناعة الجلود (الخرازة)
تعدّ جلود الإبل والضأن والماعز والبقر المادة الأساسيّة لهذه الحرفة والتي يمتهنها الحرفيّ الذي يدعى (الخراز)، وكانت الخرازة في الماضي حرفة أساسيّة في أوساط العامة من البادية والحاضرة ولا غنى للمجتمع عنها، إذ كانت منتجاتها سلعًا مطلوبة بالنسبة للجميع لكونها ذات أهمّيّة في الاستخدامات اليوميّة، إضافة الى كونها مجالًا شريفًا للاكتساب. وعادة ما كان الخراز يعتمد في صناعته تلك على أدوات عدّة كان من أهمّها: المخراز، والمقصّ، والمطبع لتلوين السيور الجلدية، إضافة إلى السكين.
وقبل أن يقوم الحرفيّ في صناعة منتوجه كان يعمل على إعداد الجلود ودباغتها وتنظيفها من وبر الصوف وما علّق عليها من عوالق، ثمّ تدهن هذه الجلود بمادّة الشحم لتكون مطواعة لينة سهلة. وقد كانت تلك الحرفة شائعة تقريبًا في كلّ مناطق المملكة إلا أنّها تراجعت حديثًا نظراً لإقبال المستهلكين على المستورد من المصنوعات الجلديّة الحديثة. ومن أهمّ تلك المصنوعات الجلديّة:
1. الدويرع: وهو من أدوات الزينة الخاصّة بالذلول، وهو يشغل من الجلد ويستخدم لحمل الأمتعة الخفيفة.
2. الجراب، وهو كيس جلديّ تحفظ به الأشياء الخاصّة أثناء الترحال كالنقود والقهوة والهيل.
3. الغرب: وهو وعاء كبير من الجلد السميك المدبوغ على شكل مخروط يتراوح طوله بين المتر والمترين تقريبًا وله فتحتان، إحداهما فوهة الغرب والأخرى كم الغرب، ويستخدم هذا الوعاء لرفع المياه من الآبار.
4. الدلو: وهو وعاء يصنع من الجلد، أسطواني الشكل، يستخدم لرفع الماء أيضًا.
5. الراوية: وعاء جلدي كبير يصنع من جلد الجمل، تنقل به المياه من البئر إلى البيوت.
6. المطّارة: وعاء جلدي أصغر من الراوية، يستخدمه المسافر، والراعي، ويحفظ به ماء الشرب.
7. الصميل: وهو وعاء من الجلد، عادة ما تقوم النساء بصناعته بعد أن يدبغن الجلد، ويستخدم في صنع اللبن، واستخراج الزبدة.
8. النحو: وعاء جلديّ أصغر من الصميل، ويسمّى العكة، ويستعمل لحفظ الزبدة والسمن1).
9. السِعن: وهو وعاء جلديّ أكثر استخداماته في حفظ التمر، ويسمّى أيضًا باسم (الحشية).
10. الركوة: وهو إبريق يتّخذ من جلد البعير، تركب في فتحته سدادة خشبية، أمّا أنفه فعبارة عن أنبوبة من العظم.
11. الميزب: وهو المهد الذي ينام فيه الرضيع، ويستخدم أحيانًا لحمل الطفل معلّقًا على كتف الأمّ.
12. القطف: وهو وعاء جلدي، يستخدم لحفظ النقود، أو حبوب القهوة. ومنه ما يسمّى (قطف المقامع) لحفظ مقاميع البنادق.
وهناك الكثير والكثير من المنتجات الجلدية التي استخدمت في السابق، وهي متعدّدة الأغراض والتسميات، ربما لا يتّسع المقام لذكرها هنا نظرًا لطبيعة هذا البحث والذي يعنى بالعموميات من المفردات الشعبية.
خامساً: صناعة الرحى
وهي من الصناعات الحجرية، وتكثر في الأماكن التي تتوافر فيها الحجارة الصلبة، ويطلق على محترفي تلك الصناعة (هَل الرحى). والرحى عبارة عن غطاءين من الحجر على شكل دائري، متطابقين في الحجم، تستعمله النساء لجرش الحبوب وطحنها، ويأتي على عدّة أحجام وأنواع منها:
- (المدار)، وهو رحى ضخم يدار بوساطة الحيوانات كالبقر والبغال، وأثناء دورانه كان العامل يضع الحبوب في فوهته العلوية للخروج بكمّيّات من دقيق البر.
- المنحاز، وهو عبارة عن إناء منحوت من الحجر، تهرس فيه الحبوب بوساطة مدق مصنوع من شجر الإثل.
- القراوة، وهو عبارة عن أحواض منحوتة من الحجر بمقاسات مختلفة تستخدم للاغتسال، ولسقيا المواشي.
أما عن الخامات التي تدخل في صناعة الرحى.. فهناك الحصى والذي يكون على نوعين، منه الذكر، وهو نوع صخري صلب، سريع الكسر يجب التعامل معه بحذر، ومنه الأنثى، وهو نوع مطاوع لين يمكن تشكيله حسب الحاجة. وهناك أيضًا خشب الإثل، ويستخدم لتصنيع مقبض غطاء الرحى، ومهراس المنحاز.
ويستطيع الحرفي التمييز بين أنواع الأحجار الجيدة والرديئة قبل استخدامها في تشكيل الرحى، فالحجر المعرض للشمس لا يكون جيّدًا إذ إنّه يتعرّض للكسر من أوّل طرقة، لذلك فإنّ الحرفي يفضّل من الحجارة ما كان مطمورًا تحت التراب، خاصّة ذلك النوع الذي يكون خشن الملمس والذي يتفوق من حيث الجودة على الأحجار ناعمة الملمس. وبعد استخراج الحجارة من تحت التراب، يقوم الحرفي باختبار الحجر بطرقة بقوة فإذا انكسر يجنبه، ويختبر غيره وهكذا.
وعادة ما يعمل الحرفي على تشذيب الحجر ونحته على أرض لينة، مستخدمًا ساقيه لسند الغطاء الحجري أثناء عملية التشكيل. وتدخل في صناعة الرحى آلات وأدوات عدّة منها: العتلة لسحب الحجر من الأرض، والمسحاة، والمرزبة، والمنقار لثقب الحجر، والمقرعة لتنظيفه من الشوائب، والمنقاش لنقش الحجر. كما يستخدم الحرفي الخيط والفحم، أو الفرجال لتحديد دائرة الحجر وتعليمها.
** **
- صالح الشادي