د.حادي العنزي
لست وحدك تُعاني من ضغوط وتأثيرات تطبيقات الهواتف الذكية، وليس مجتمعنا السعودي وحده المتأثر بسلبيات التقنية بعد أن تسللت الأجهزة الذكية إلى جيوب الأطفال والشباب، واستدرجت بعضهم إلى أخطار شخصية واجتماعية، وحتى عقائدية، عبر حملات مستمرة على مدار الساعة يتم تكثيفها في أوقات محددة لجذب الانتباه واستغلال الضعف والفضول عند بعضهم.
وأكثر ما يؤلم هو النشاط الذي حدث مؤخراً مع بداية العام الميلادي الجديد في بعض المجالس العامة، حيث يرددون خرافات وتكهنات المنجمين وتوقعاتهم لأحداث العام 2025، ناهيك عن المتابعات المستمرة لتنجيم الأبراج اليومية التي يخدعون الناس بها، ويقدمونها في قوالب ومحتوى عاطفي يُحاكي مشاعر إنسان التقنية.
هذا الإنسان المُتشتت بين تطبيقات الجوال ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت بحراً تغيب فيه تربية الأطفال وترتبك منه غرائز المراهقين، حتى تتشابك المفاهيم وتختلط مع الثقافات لترسم خريطة فكرية مشوشة لإنسان المستقبل، الذي يُسجن تدريجياً في زنزانة العالم الافتراضي.
مجتمعنا السعودي يرتكز على قيم دينية وعقلانية واضحة، حرّمت التنجيم وحذرت منه باعتباره خرافة تتنافى مع تعاليم الإسلام، ومع ذلك، تعيد التطبيقات الحديثة صياغة هذه الخرافات وتُلبسها ثياب «التسلية البريئة»، مُستغلة ضعف الوعي عند بعضهم وانبهارهم بالمظاهر الجذابة، فهي تُخاطب فضول الإنسان وحاجته لمعرفة المجهول، في محاولةٍ لتطبيع هذه الخرافات وجعلها جزءاً من ثقافتنا اليومية.
وهناك خلط كبير بين التنجيم وعلم الفلك، وهما مختلفان تماماً. فالتنجيم مُعتقد قديم نشأ مع الحضارات السومرية والمصرية، ثم تطور في اليونان ليصبح أكثر تنظيماً، وكان يُستخدم في العصور القديمة لاتخاذ قرارات سياسية واقتصادية، ويفترض أن مواقع الكواكب والنجوم تؤثر على الأحداث الشخصية في حياة الأفراد، كما يعتمد على قراءة الأبراج وتفسير التأثيرات السماوية على الشخص بناءً على تاريخ ميلاده، ويعتبره العلماء شكلاً من أشكال الخرافة أو المعتقدات الشعبية، فيما يستخدمه المؤيدون في اتخاذ قرارات شخصية، مثل الزواج والعمل، أو الأمور المالية وغيرها.
بينما الفلك علم، وهو دراسة الأجرام السماوية، مثل النجوم والكواكب، وظواهرها، بما في ذلك تكوينها وحركتها وتفاعلها، ويعتمد على الملاحظة والتجربة، ويستخدم الرياضيات والفيزياء لفهم الكون، وله تطبيقات عملية في مجالات عديدة مثل الفضاء والملاحة والتكنولوجيا، كما يُستخدم في البحوث العلمية واستكشاف الفضاء، بالإضافة إلى تطوير التكنولوجيا.
معظم الدراسات والبحوث ناقشت «التنجيم» من خلال تأثيره الثقافي والنفسي على الأفراد، وذلك لعدم وجود دليل علمي يدعم التنجيم كعلم دقيق، وقد اطّلعتُ مؤخراً على دراسة حول الشعبية المتزايدة للتنجيم في العصر الرقمي لمجموعة من علماء الاجتماع من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، أكدوا فيها أن الشباب يتجهون بشكلٍ متزايد إلى التطبيقات والمواقع الإلكترونية للحصول على توقعات خاصة بهم، مما يشير إلى تحول ثقافي في كيفية فهم فئة الشباب للعالم حولهم، وهذه النتيجة تتطلب الوقوف طويلاً وبعمق على وضع أبنائنا الشباب، وما يجدونه في التقنية، وتأثيرها على العقائد، وكيف تُعيد التقنية صناعتهم.
وقد أجرى مجموعة من العلماء دراسة شاملة، تم جمعها في كتاب « النجوم والتنجيم: الحقيقة والخرافة»، أثبتت أن التنجيم لا يقوم على الحقائق وإنما على إحصاء ضعيف جداً. بل إن معظم الدراسات حذرت من التنجيم، وأنه يمكن أن يؤدي إلى أخطار نفسية كبيرة، مثل التفكير السلبي، والقلق من المستقبل، وضعف الإنسان وعدم إيمانه بقدراته ومهاراته.
ولأن التنجيم ليس علماً، فإنه لا يمكن مناقشته من زوايا علمية، لكن يمكن الإشارة إلى الدوافع التي تجعل الناس يسمعون للمنجمين، فهي تعود إلى حاجات نفسية واجتماعية تعكس الطبيعة البشرية في البحث عن المعنى والتحكم في حياتهم.
البشر بطبعهم يبحثون عن تعزيز الذات والشعور بالتوجه، والتنجيم يمكن أن يقدم هذا التعزيز من خلال توفير تفسيرات وتوقعات تتناسب مع رغباتهم. كما أن الناس في حياتهم يشعرون بالقلق وعدم اليقين حول المستقبل، ويمكن للتنجيم أن يقدم لهم شعوراً بالتحكم أو التوقعات التي تقلل من هذا القلق. أيضاً، البشر يميلون إلى ربط الأحداث والتجارب بأسباب محددة، حتى لو كانت هذه الأسباب غير موثوقة علمياً، وهذا يمكن أن يجعلهم يبحثون في التنجيم عن تفسيرات تربطهم بتجاربهم وخبراتهم.
وطبيعة الشباب بصفة خاصة تجعلهم يواجهون ضغوطاً وقلقاً بشأن المستقبل، مما يدفعهم للبحث عن أي وسيلة توفر لهم شعوراً زائفاً بالطمأنينة والسيطرة، ويجدون ذلك في تطبيقات الأبراج التي تقدم لهم إجابات جاهزة وسريعة، مما يجعلها جذابة وسهلة الاستخدام، إضافة إلى ذلك تعتمد هذه التطبيقات على تقنيات مثل «تأثير بارنوم»، الذي يُقدم أوصافا وتوقعات عامة يمكن لأي شخص أن يجد نفسه فيها، ويعتقد أنها تخصه وتنطبق عليه شخصياً!
يجب على الجميع، من مؤسسات وأفراد، العمل على التوعية من أخطار المنجمين وعدم التساهل فيما يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية، والبدء في بناء شبكات اجتماعية تقدم توجيهاً ودعماً نفسياً علمياً، بالإضافة إلى تنظيم اللقاءات والمحاضرات التي تُناقش فوائد العلم والتفكير العقلاني، وتحلل ادعاءات التنجيم بشكلٍ نقدي وعلمي.
كما أن توسيع المعرفة العلمية، وخاصة عند الشباب، يتطلب الاهتمام أكثر بتعليمهم وتدريبهم على كيفية التفكير النقدي، والحصول على المعلومات من المصادر الموثوقة، وكذلك مشاركة تجاربهم الشخصية حول المخاطر المحتملة للاعتماد على التنجيم، بالإضافة إلى تعزيز الفضول العلمي لديهم، وتشجيعهم على الحوارات الأسرية، وتمكينهم من طرح ومناقشة مخاوفهم في مختلف القضايا الاجتماعية، حتى يتمكنوا من اتخاذ القرارات الصحيحة والتفاعل بشكل إيجابي مع التغييرات والتحديات المعاصرة، للمحافظة على هويتنا الوطنية والإنجازات التنموية الشاملة التي تعيشها بلادنا.