د. محمد بن أحمد غروي
لعلنا نستشرف ما ستواجهه دول جنوب شرق آسيا من العديد من التحديات والمخاطر على مختلف الأصعدة والمجالات، خاصة مع اختلاف نهج الإدارة الأمريكية الجديدة ورئاسة ترامب. كما أن الأوضاع الداخلية لبعض دول آسيان، لا تزال تمثل مشكلة حقيقية وعائقًا يحول دون تقدم يُذكَر لدول المنطقة، كما أن التعامل مع هذه التحديات يمكنها من تقليص خسائرها، والحفاظ على وحدة التكتل الإقليمي، ونموه الاقتصادي الذي يعد واعدًا بلغة الأرقام خلال السنوات الأخيرة. والموارد البشرية المدربة والهائلة التي قارب عدد سكانها 700 مليون نسمة مشكلة في تكتلها، خامس أكبر اقتصاد في العالم، ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد رابطة دول جنوب شرق آسيا بنسبة تزيد على 5 % سنويًا ليصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030.
لعل أبرز القضايا العالقة هي الاضطرابات المدنية المستمرة في ميانمار في أعقاب الانقلاب العسكري في عام 2021 والتي تمثل أزمة كبيرة لمنطقة آسيان، وتأجيل المجلس العسكري الحاكم لإجراء الانتخابات، وسيكون على ماليزيا خلال فترة رئاستها أن تعمل على محاولة إيجاد حل للأزمة التي دخلت عامها الرابع.
ومن بين التحديات الجيوسياسية التي تواجه دول آسيان هذا العام، النزاعات البحرية مع الصين في بحر الصين الجنوبي، وقدرة الكتلة على معالجة هذه التحديات الجيوسياسية وغيرها بفعالية على وشك أن تُختبَر بشكل جدي، خاصة في ضوء وجهات النظر المتباينة بين الدول الأعضاء.
العام الماضي اتخذت قضية النزاع في منطقة بحر الصين الجنوبي مسارًا أكثر تعقيدًا، وخاصة بين الفلبين والصين، اللذين تبادلا الاتهامات والمراشقات الإعلامية بشأن اشتباكات اندلعت في منطقة متنازع عليها بحريًا، ومن المتوقع أن تلجأ مانيلا إلى معاهدة الدفاع المشترك لعام 1951 مع الولايات المتحدة، التي تتطلب الدفاع عن بعضهما بعضا في حالة تعرضهما لهجوم من قبل طرف ثالث، مما يزيد الموقف تعقيدًا، كما أن مدونة قواعد السلوك تمثل تحديًا آخر، فلا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الوثيقة قابلة للتنفيذ قانونيًا وموافقة جميع الأطراف رغم التفاوض عليها لأكثر من عقدين، فلا تزال الانقسامات داخل الرابطة.
اقتصاديًا، نمت رابطة جنوب شرق آسيا خلال عام 2024 مع توقعات بنك التنمية الآسيوي أن ينمو اقتصاد المنطقة بنسبة 4.7 %، ويعود هذا النمو إلى الطلب المحلي القوي في المنطقة، والتعافي في السياحة، وارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر. وتشهد العديد من دول جنوب شرق آسيا، بما في ذلك تايلاند وماليزيا وفيتنام، زيادة في الاستثمار الأجنبي المباشر حيث تضع نفسها كوجهات جذابة للشركات العالمية التي تسعى إلى تنويع سلاسل التوريد.
إلا أن الحال السائد من عدم اليقين بالجميع يترقب الإدارة الأمريكية الجديدة وما تمثله دول رابطة جنوب شرق آسيا مجتمعة كثقل اقتصادي، فهي رابع أكبر سوق للصادرات الأمريكية. وقد تضاعفت صادرات البضائع الأمريكية إلى المنطقة بأكثر من الضعف في العقد الماضي، لتصل إلى 107 مليارات دولار في عام 2023. وبلغت صادرات الخدمات الأمريكية إلى المنطقة ما يقرب من 49 مليار دولار في عام 2022، وتدعم التجارة مع دول رابطة دول جنوب شرق آسيا حوالي 625 ألف وظيفة أمريكية، والوظائف التي تدعمها الصادرات تدفع في المتوسط 16 % أكثر من الوظائف الأمريكية الأخرى.
في حين أصبحت رابطة دول جنوب شرق آسيا سوقًا متزايدة الأهمية للشركات الأميركية، فإن الافتقار إلى أجندة تجارية أميركية قوية، وانغلاق أميريكا على ذاتها، ورفضها لاتفاقيات التجارة - سواء كانت قطاعية أو شاملة - قد دفع دول جنوب شرق آسيا إلى التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة شريكًا اقتصاديًا موثوقًا به على المدى الطويل.
ومن المرجح أن تؤثر سلبًا السياسات الاقتصادية والتجارية على اقتصاد جنوب شرق آسيا، خاصة التعريفات الجمركية التي لوح بها الرئيس القادم وإجراءات الحمائية التي من المرتقب أن تُطبَق مع بداية عهده.
أيضًا ستواجه المنطقة إجراءات انتقامية تجارية من الولايات المتحدة إذا انضمت دولها بشكل وثيق للغاية إلى مبادرات مجموعة البريكس، والتحدي المباشر للهيمنة الأميركية، خاصة إذا أدت أنشطة مجموعة البريكس إلى تصعيد الجهود الرامية إلى تقويض الدولار الأمريكي.
إن الشاغل الإقليمي الرئيسي لدول آسيان من الناحية السياسية والجيوسياسية مع رئاسة ترامب الثانية هو خطر تبني سياسة أكثر مواجهة تجاه الصين عما كانت عليه في فترته الأولى. وتخشى دول جنوب شرق آسيا من تصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وتحولها إلى صراع ستُجبَر فيه آسيان على الانحياز لطرف دون آخر أو الانخراط في صراع مسلح أو تحركات عسكرية قد تسبب اضطرابًا للمنطقة وتعرقل استقرارها.
كما قد تستمر التوترات الجيوسياسية، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين، في التأثير على التجارة في جنوب شرق آسيا، وخاصة في البلدان التي تربطها علاقات تجارية وثيقة بكلتا القوتين العظميين. ومن المرجح أن تصبح جهود تنويع التجارة استراتيجية رئيسية للعديد من الدول في المنطقة للحماية من المخاطر الخارجية.
ومن بين القضايا الأخرى التي يبدو أنها ستلقي بظلالها على سياسات دول جنوب شرق آسيا، تحديات البيئة والاستدامة والتحول الرقمي والتكنولوجيا. ويُرجح أن تشكل الاستدامة موضوعاً رئيسياً في عام 2025. وستواصل منطقة جنوب شرق آسيا إعطاء الأولوية للاستثمارات في الطاقة الخضراء والزراعة المستدامة ومبادرات الاقتصاد الدائري. وتقود دول مثل تايلاند وإندونيسيا الطريق بالفعل في تعزيز الممارسات المستدامة ودمجها في خطط التنمية الوطنية.