عادل علي جودة
كلمة لافتة كرَّرْتُ الإنصات إليها عبر تسجيل صوتي مرئي لسمو الأمير تركي الفيصل في المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية العربية، ومقره واشنطن العاصمة بتاريخ 13 نوفمبر 2024م. كلمة لافتة وجدت من واجبي ـ بوصفي فلسطينيًا ـ أن أسلط عليها الضوء بالتأييد لما اتسمت به من دقة، وعمق، وشمول، وشفافية؛ إذ حددت معالم المسؤولية في كل الاتجاهات، ووضعت المعايير والتدابير الواجب اتباعها من قبل المجتمع الدولي بأسره لاسيما تلك القوى العظمى ذات التأثير الإيجابي إذا ما التزمت الحيادية والإنصاف.
بدأ الأمير تركي كلمته بقوله: «نحن في وقت يواجه فيه عالمنا أزمات متعددة؛ حروب، ومؤسسات دولية مدمرة، وإهمال للمبادئ والقوانين والأعراف الدولية». ثم راح يصف ما يعانيه عالمنا من فوضى قائلًا: «على مر التاريخ الحديث، كانت القوى العظمى هي صانعة الأنظمة المستقرة والمسالمة والضامنة لها، لكنها اليوم هي السبب وراء هذه الفوضى من خلال سلوكها.»
وأكد سموه أن «هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية لاستعادة النظام من خلال العودة إلى مبادئه وقيمه، وقيادة عالمنا المضطرب نحو نظام دولي حقيقي قائم على القوانين»، وأردف في هذا السياق قائلًا: «الواقع أن الشعوب والحكومات في العديد من أنحاء العالم انتظرت الانتخابات الأمريكية وكأنها انتخاباتهم الخاصة، إلا أن الكثير منهم يرون أن توقعاتهم العالية غالبًا، وأقول دائمًا، تخيب بسبب سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بغض النظر عمن هو الرئيس، وذلك عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي تهمهم، وخاصة في الشرق الأوسط.»
ثم عبر سموه عن أمله قائلًا: «آمل أن تتسم الإدارة الأمريكية الجديدة بروحِ (لنعمل من أجل السلام)، بدلًا من مجرد التمني له»، مبديًا خشيته من «أن الحديث عن هذا الأمل لن يتجاوز مجرد التفكير الحالم إذا ما جاءت الإدارة الجديدة إلى السلطة دون استراتيجية جديدة مدروسة جيدًا تطمئن العالم على قيادتها ونواياها لتحقيق السلام والتوازن العالمي مرة أخرى.» مبررًا ذلك بقوله: «نحن في الشرق الأوسط، وأعتقد في أجزاء أخرى من العالم أيضًا، كنا، ولم نزل، نشاهد السلوك الدبلوماسي الأمريكي خلال الحرب المستمرة على غزة منذ أكثر من عام، وللأسف، مخيبًا للآمال تمامًا، وينظر إليه في المنطقة كدبلوماسية متواطئة تمنح نتنياهو الوقت لإتمام الإبادة الجماعية والحروب ضد الشعب الفلسطيني»، مما يشير إلى «عجز الولايات المتحدة كقوة عظمى مسؤولة عن الحفاظ على السلام والأمن العالميين».
وأكد سموه أن «الفشل المستمر في معالجة قضية فلسطين؛ وهي أمّ كل الصراعات، كان ولا يزال السبب الرئيس في الخلاف بين العالم العربي والإدارات الأمريكية.» مؤكدًا سموه أنه «إذا كانت تجارب الماضي والحاضر للإدارة الأمريكية في التعامل مع هذا الصراع الممتد قد كشفت شيئًا، فهو أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سيظل عصيًّا على الحل طالما أن السياسة تتأثر بشكل مفرط بمواقف إسرائيل. هذه اللعبة، لعبة التحيز لإسرائيل، لم تثبت حكمتها للولايات المتحدة، وهي في ظل عالم عربي متغير باستمرار، ستكون حماقة أكبر.»
وفي هذا الإطار استطرد سموه قائلًا: «على مدار الثلاثة عشر شهرًا الماضية، تعرض قطاع غزة لهجوم عشوائي من الجيش الإسرائيلي، مستهدفًا الأرواح، والبنية التحتية، وجميع العناصر الحيوية للحياة البشرية» مما «يدل على تجاهل صارخ للقيم الإنسانية والمعايير والقوانين المصممة لحماية المدنيين. لقد رأت إسرائيل في الهدوء النسبي بالضفة الغربية، وضعف السلطة الفلسطينية فرصة لتعزيز أجندتها الاستيطانية في فلسطين ومقدساتها، هذه الأوهام أدت أيضًا إلى إساءة تفسير عروض السلام العربية على أنها علامة على تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وفشلت إسرائيل في إدراك أن السلام والاستقرار والأمن في المنطقة تعتمد على حل هذه القضية العادلة، حتى لو قامت بتطبيع العلاقات مع جميع الدول العربية، وهي برفضها المبادرات السلمية العربية وغير العربية وتحديها للقرارات الدولية، افترضت أن سياساتها نجحت في إلقاء اللوم على الضحية، مستفيدة من دعم حلفائها الذين يسيطرون على وسائل الإعلام وصنع القرار، لاسيما في الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية». وأكد سموه أنه «بغض النظر عن نتيجة هذه الحرب الوحشية، لا يمكن لإسرائيل التهرب من عواقب احتلالها الطويل، وغطرستها، وسياساتها المتهورة ضد الشعب الفلسطيني ومقدساته.»
ثم في وقفة لابد منها حيال المتاهات التي يعاني منها الجانب الفلسطيني قال سموه: «تتحمل السلطة الفلسطينية، وحماس، والمنظمات الفلسطينية الأخرى، عبئًا كبيرًا في فشلهم؛ حيث لم يتمكنوا من تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسامات المستمرة بينهم، مما أعطى لإسرائيل والآخرين المبرر لتهميشها وعزلها وإضعافها. إن الانقسام بين السلطة الفلسطينية وحماس في غزة والضفة الغربية أثبت أنه مضر بسلامة قضيتهم.» وها هي «غزة تدفع ثمنًا باهظًا من الدمار وسفك الدماء، وهو ثمن تشترك الفصائل الفلسطينية في مسؤوليته بسبب عدم قدرتهم على مجاراة حجم قضيتهم.
اليوم يجب على الفلسطينيين أن يستفيدوا من دروس معاناتهم ومن التعاطف العالمي الذي حازوا عليه لتقديم صوت موحد إلى العالم، هذا الفشل بين الفلسطينيين يمتد أيضًا إلى الإخفاقات العربية، حيث فشل العالم العربي في توحيد الصف الفلسطيني وترك غزة محاصرة، وعدم دعمه الجاد لسعينا نحو السلام، مما يشجع القوى الدولية والإقليمية على السير في الاتجاه ذاته.»
وأضاف سموه قائلًا: «لقد كشفت الحرب على غزة النفاق الصارخ والمعايير المزدوجة بين النخب والدول الغربية، وخصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين طالما روجوا لصورة تقدم الحضارة والتزامها بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية والقانونية، فضلًا عن السلام العالمي؛ هذا الكشف ليس جديدًا على منطقتنا، ولكنه أصبح أكثر وضوحًا حتى لشعوبهم الذين كانوا يؤمنون بقيمهم المعلنة. مئات الآلاف من الأمريكيين الذين تظاهروا في شوارع معظم المدن الأمريكية دعمًا لاستقلال فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي يشهدون على معارضة الشعب الأمريكي لسياسة حكومته الداعمة لإسرائيل.»
وفي كلمة تضع النقاط على الحروف قال سموه: «إذا كانت السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية تُقاد من قبل إسرائيل، مدفوعة بنوايا شريرة ومتطرفة تسعى إلى استمرار المجازر والدمار، فإن هذا الفشل سيستمر. الفشل الأخير للولايات المتحدة الأمريكية هو تتويج لأربعين عامًا من سوء الإدارة والسعي غير الجاد لإيجاد حل، ومواقفها لم تكن إلا صدى لإسرائيل؛ تؤخر جهود السلام وتماطل لإقامة أمر واقع لا رجعة فيه يعوق أي حل عادل ومقبول لدولة فلسطينية وحقوق تقرير المصير.» مؤكدًا سموه أنه «لا يوجد خيار آخر سوى التحرك نحو إقامة دولة فلسطينية معترف بها، وفقًا للقرارات الدولية، لاسيما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1948م، وقرارات مجلس الأمن الدولي 242 و338.» وأكد سموه أن «الكلام دون أفعال من قبل قادة العالم الحكماء لن يجلب حلًّا نهائيًا للقضية الفلسطينية، وقد حان الوقت للالتزام بالمثل العليا للنظام العالمي والقانون الدولي والعمل على تحقيقها، إن الفشل هذه المرة في تحقيق العدالة لآخر شعب أصلي مستعمر في فلسطين هو دليل على ازدواجية الدول الغربية الكبرى. إسرائيل ليست دولة استثنائية تتهرب من إملاءات الضمير والقانون الدولي في هذا الشأن.»
وحول القمة العربية الإسلامية التي عُقدت مؤخرًا في الرياض، أكد سموه أنها «عُقدت لتوحيد الموقف العربي والإسلامي بشأن القضية الفلسطينية، انطلاقًا من الإيمان بأنه لن يكون هناك سلام، أو أمن، أو استقرار، أو نجاح اقتصادي مستدام، في منطقتنا دون حلها.»
ثم راح سموه يجدد التأكيد على أن: «المملكة العربية السعودية ملتزمة علنًا وسرًّا بإيجاد حل عادل وسلمي لهذا الصراع. هذا الالتزام ليس جديدًا، وقد أكده مؤخرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي صرح بأنه لن يكون هناك تطبيع مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.» وأضاف سموه أن «المملكة ثابتة في دعمها لجميع المبادرات الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي الرامية إلى حل هذا الصراع بشكل سلمي. المملكة صاحبة مبادرتين إقليميتين رئيسيتين؛ خطة السلام التي اقترحها الملك فهد عام 1981م، والمبادرة العربية للسلام التي أطلقها الملك عبدالله عام 2002م، وقد تبنت جميع الدول العربية هاتين المبادرتين وقدمتهما للعالم، ولكن إسرائيل تجاهلتهما.»
وختم سموه كلمته بقوله: «تشيد المملكة بحرارة بالدول الأوروبية، وغيرها من الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية.» مؤكدًا أن «المملكة لا تزال تؤمن بجدوى المبادرة العربية للسلام الهادفة لحل الدولتين باعتبارها المبادرة الأكثر عدلًا والمطروحة حتى الآن. وستواصل المملكة دعم أي مبادرة تحقق حلًّا عادلًا لمعاناة الشعب الفلسطيني.»
وأجدني هنا أختم بتحية تأييد وإكبار لسمو الأمير تركي الفيصل، ولكلمته التي تنطق بالحق، والتي تعكس ثبات الموقف السعودي الدائم؛ الداعم ـ بالقول والفعل ـ لقضيتنا الفلسطينية العادلة على امتداد مفاصلها، والحاضن للشعب الفلسطيني على امتداد نكباته، والمنادي بتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه كاملة غير منقوصة بما في ذلك إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على أرضها، وبحرها، وهوائها، وكل مقدساتها.
** **
كاتب فلسطيني - الرياض