د. خضر محمد العطوي
تُنفق الحكومات في جميع أنحاء العالم مليارات الدولارات على الرعاية الصحية سنويًا، مع تزايد ملحوظ في تكاليف الخدمات الطبية سنوياً حتى أصبحت بمستويات تُشكل عبئاً على موارد العديد من الدول حول العالم. فعلى مدار العقدين الماضيين، ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن الإنفاق العالمي في مجال الصحة تضاعف ليصل إلى ما يزيد على 8,5 تريليون دولار أمريكي، شاملاً الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية، ومساهمات شركات التأمين الصحي ممثلاً ما قيمته 9,8 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتُقدر تكاليف الرعاية الصحية الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية الأعلى في العالم بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، حيث تُشكل نفقات الرعاية الصحية غير الضرورية أكثر من ثلث نفقات الرعاية الصحية الكُلية، وسعى الاقتصاديون لبيان أن الرعاية الصحية غير الضرورية هي سوء استخدام للخدمات الصحية. وهذا ما يعرف بمفهوم «الرعاية الصحية غير الضرورية» حيث تُعرف بأنها الخدمات الصحية التي تُقدم بحجم أو تكلفة أعلى مما هو مناسب والإفراط في استخدام الخدمات الصحية، بينما يصف بعض الأطباء في الولايات المتحدة بأن الرعاية الصحية غير الضرورية خرق أخلاقي وقانوني للممارسات الصحية.
تتمثل أهم صور الرعاية الصحية غير الضرورية، إلى دفع البعض من الممارسين الصحيين في المراكز الصحية أو المستشفيات أو المختبرات الطبية المرضى إلى تحاليل مخبرية أو أشعة بمختلف أنواعها أو وصف أدوية وقائية غير ضرورية للمرضى، خصوصاً في الحالات التي لا يكون المريض هو الذي يدفع مقابل هذه الخدمات والأدوية وإنما شركات التأمين. بينما قد يشكل العلاج الإضافي أو الزائد عن الحاجة للمريض إلى تدخلات طبية غير الضرورية، مثل علاج الحالات المحددة لذاتها ولا تطلب علاجاً، أو إلى علاج مكثف لحالات تتطلب علاجاً محدوداً فقط. ما ينتج عنه زيادة للإنفاق الحكومي وللأفراد على الرعاية الصحية، فهناك العديد من تلك الخدمات الصحية كبعض أنواع التحاليل المخبرية تكون مكلفة على ميزانية المؤسسات الصحية. وللحد من تفاقم وقوع الرعاية الصحية غير الضرورية، ومواجهة الزيادة المستمرة للإنفاق الحكومي أو الأفراد تُبادر العديد من المنظمات الصحية حول العالم إلى تعزيز الوعي الصحي لدى المرضى والممارسين الصحيين لمعرفة الحاجة إلى إجراء التحاليل والأشعة بحيث يستطيع المريض مناقشة الطبيب عن أهمية التحاليل والفحوصات التي ينوي القيام بها. ومن هذا المنطلق، تبلورت في الولايات المتحدة عام 2012م حملة “الاختيار بحكمة» حيث قامت مؤسسة البورد الأمريكي للطب الباطني بالتعاون مع المنظمات والجمعيات الطبية المتخصصة بالعمل على تحديد الخدمات الصحية غير الضرورية كالتحاليل والإجراءات الطبية والعلاجات التي تقدم للمرضى، وتكون عبئاً على الانفاق الحكومي ومقدمي الرعاية الصحية والمريض وشركات التأمين. وأدت تلك الحملة إلى تأسيس قوائم توصيات لمساعدة المرضى ومقدمي الرعاية الطبية لتحديد الاختبارات والإجراءات الطبية والعلاجات، التي قد تكون غير ضرورية ولا تزيد من كفاءة جودة الرعاية الصحية المقدمة للمرضى؛ بهدف زيادة الوعي لدى مقدمي الرعاية الصحية بتجنّب المريض أي إجراءات طبية، أو فحوص مخبرية، أو صور شعاعية، أو علاجات قد تكون غير ضرورية ما ينتج عنها بعض الآثار الجانبية والتداخلات الطبية غير مرغوبة وهدر للأموال والوقت.
وعلى المستوى المحلي، يُنظم المركز السعودي لسلامة المرضى سنوياً مبادرة «الاختيار بحكمة» بالتعاون مع وزارة الصحة، والتي انطلقت باكورة برامجها في عام 2019م، والتي تعد إحدى مبادرات التحول الوطني في القطاع الصحي للحد من الهدر في التحاليل المخبرية وصرف الأدوية والاجراءات الصحية غير الضرورية. حيث تهدف المبادرة إلى توفير رعاية صحية ميسورة التكلفة وعالية الجودة, والحد من «الرعاية الصحية غير الضرورية» من خلال تمكين الممارسين الصحيين في المرافق الصحية في القطاع الحكومي والخاص إلى تحسين الرعاية الصحية للمرضى عبر تعزيز التواصل بين المرضى ومقدمي الرعاية الصحية، حول الإجراءات الطبية غير الضرورية من خلال مساعدتهم على اختيار الرعاية الصحية المناسبة، على أن تكون الإجراءات المطلوبة للمريض حقاً ضرورية بالاعتماد على أفضل الممارسات الصحية المبنية على الأدلة والبراهين سواء من ناحية التحاليل أو صور الأشعة للمرضى، بدون اللجوء إلى تكاليف إضافية أو رسوم غير ضرورية، التي قد تكون عبئاً على المرضى ومقدمي الرعاية الطبية، مما يرسخ الثقة بين المرضى والأطباء وللحصول على نتائج رعاية صحية أفضل، وبالتالي زيادة رضى المرضى عن الخدمات الصحية المقدمة لهم.
ولتكاتف جميع الجهود لتحقيق أهداف مبادرة «الاختيار بحكمة»، نرى أن يكون هناك دور فعال لمراكز الرعاية الصحية الأولية، حيث تعتبر نقطة البداية للمرضى في طلب العلاج، فيعول على الدور الرئيسي للأطباء الأسرة في مراكز الرعاية الصحية الأولية من خلال الاستشارات والتثقيف الصحي للمرضى والإحالات الطبية، كذلك تحديد الاحتياجات الضرورية للخدمات الصحية للمرضى سواء تحاليل مخبرية أو أشعة.
كما لابد أن يكون لدى أطباء الأسرة الدراية التامة بتطور حالة المريض بعد تحويله إلى المستشفيات أو المراكز العلاجية المتخصصة أو المختبرات، حيث يزود بتقرير علاجي من المستشفيات أو المراكز المتخصصة المحول لها، كما هو معمول في العديد من الدول المتقدمة في الرعاية الصحية، فمراكز الرعاية الصحية الأولية لها دور صحي كبير وتعتبر من أهم المرتكزات لنجاح مبادرة «الاختيار بحكمة».
** **
- دكتوراه في علاجيات القلب والأوعية القلبية