بمناسبة انطلاق مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل في أرض الصياهد، وحيث يواصل المهرجان تأصيل موروث الإبل وتعزيزها محورًا للهوية الثقافية في بلادنا المملكة العربية السعودية، بحثت عن ورود اسم الإبل في كتب الرحالة الأوروبيين وماهي انطباعاتهم حول الجمل وما دوره في نقل هؤلاء في جزيرة العرب.
طبعت صورة الجمل والصحراء كثنائي لا يفترقان، ونتيجة لذلك فقد وجدت الناقة مكانتها بين الممتلكات الثمينة التي يفتخر بها الإنسان؛ إذ كانت ضرعًا حلوبًا وظهرًا مركوبًا، ومن النادر أن تُذبح الناقة إلا في الحالات الحرجة مثل: مرضها أو كسر في قوائمها. وكان امتلاك النوق يحدد المكانة الاجتماعية للفرد والعائلة، كما ارتبطت النوق بتجارة اللبان؛ إذ تُحمل المادة المستخرجة من جذوع الأشجار إلى الموانئ والأسواق، ثم تسلك الإبل في قوافل نقل المنتج العربي الثمين في طرق سُمّيت طرق القوافل التي تنطلق من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها (1).
وقد وصفت «آن بلنت» الجمل بأنه حيوان مقتصد لقوته، ويعرف قيمة الوقت، ولا يُضيع أية لحظة، وكثيرًا ما يُصغي إلى نداء سيده، وعندما يرصد نيران المخيم، فيراها مشتعلة يعرف أنه قد حان وقت المبيت فيشق طريقه ببطء إلى المضارب لينيخ بإرادته لكي يحصل على نصيبه من الفول أو كومة من بذور القطن، ثم يجتر ما مضغ حتى الصباح. ويتدبر البدو أمر العطش حينما ينفد الماء حسبما يذكر «ألويز موزيل»، بأن يحصلوا عليه بذبح أسمن جمل، ويأخذوا كرشه ويضعوه على عباءة، ثم يضغطون عليه حتى يصب ما بداخله من السوائل إلى قربة من الجلد، ويدعوه فترة لتبرد هذه السوائل وترقد. وليس بينهم من لم يتذوق الماء على هذا النحو على الأقل مرة واحدة.
كما تشهد الثقافة الشعبية العربية كثيرًا من التعبيرات والأمثال الشعبية والعادات والمعتقدات التي تتصل بعالم الإبل من قريب أو من بعيد. والجِمال في الثقافة الشعبية العربية تشير إلى الصبر، وكثيرًا ما عبر عن عموم الشعب بالجِمال وعن قائدهم بالجمّال. ومن مطالع مواويلهم الشهيرة: «أنا جمل صلب لكن علتي الجمَّال»، ومن التعبيرات الشعبية الشائعة في الثقافة المصرية والعربية تعبير «يضرب أخماس في أسداس». وهو المثل الذي تعرض له ابن أبي السرور البكري في معجمه: «القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب»؛ إذ أشار إلى أن هذا المثل يعني أن أحدهم يدبر مكيدة لآخر، وهو المثل الذي نتداوله اليوم إشارة إلى شدة الحيرة، غير أن هذا المثل الشعبي يرتبط بعالم الإبل في البادية العربية قديمًا، حيث يشير إلى استعداد العربي للسفر، فيقوم بتعطيش ناقته خمسة أيام ثم يسقيها، ثم يعطشها ستة أيام ثم يسقيها، حتى يصل إلى هدفين: الأول تدريب ناقته (سفينة الصحراء) على تحمل العطش. والثاني هو إجبارها على تناول كمية كبيرة من المياه وتخزينها في جوفها، حتى إذا ما احتاج إلى ماء في الصحراء يمكنه أن يذبح ناقته، ويأكل لحمها ويشرب مما خزنته في جوفها من ماء(2).
واحتفظ التراث بأسماء بعض الإبل لشهرتها ولقيمتها المرتبطة بأحداث مهمة في تاريخ البشرية؛ منها: ناقة الله لثمود قوم صالح؛ الذين طلبوا منه آية على صدق دعواه عبارة عن ناقة عشراء تتمخض من صخرة، فاستجاب الله لهم، وكانت تَرِدُ يومًا وهم يَرِدُونَ في يوم آخر، ثم إنهم عقروها فكان هذا سبب وقوع العذاب عليهم.
ناقة البسوس: والبسوس امرأة استجارت بجساس بن مرة، وحين رأى ناقتها «كليب بن ربيعة» ترعى في حماه قتل فصيلها، فثارت الحرب بسببها بين قبيلتي بكر وتغلب أربعين عامًا. وعُرفت بحرب البسوس التي انتهت بصلح.
ناقة رسول الله القصواء: وهي التي هاجر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال للأنصار حين استقبلوه: «دَعُوها فإنها مأمورةٌ» (3).
هناك علاقة بين الدراسات الاستشراقية في المنطقة العربية وحياة ودور الإبل فيها، فلا يمكن أن تجد دراسات لمستشرقين إلا وكانت الإبل محورًا فيها، أو صورة أو لوحة فنية لها؛ لذلك ندرس في هذه المقالة صورة الإبل في نظر المستشرقين الغربيين.
إن نظرة المستشرقين في الغرب تجاه الإبل في الجزيرة العربية، كانت محور اهتمام العديد منهم، فقد تناولوا موضوعاتها بطرق تعكس تصوراتهم عن الثقافة العربية، والرؤى المتنوعة عن الإبل وعدّها رمزًا لهذه الثقافة، نظرًا لقدرة الإبل على التكيف مع بيئة الصحراء، وعدّها رمزًا للثروة والمكانة الاجتماعية لدى القبائل البدوية. ولاحظ المستشرقون أهمية الإبل كوسيلة نقل في الصحراء ودورها في الرحلات الطويلة، وهم الذين تنقلوا أو عاشوا في الجزيرة العربية لسنوات وعقود طويلة، وأدركوا أن الإبل جزء أساسي من حياة البدو. وبذلك فإن المستشرقين الذين درسوا المنطقة قدّموا الرؤى تجاه الإبل؛ نظرًا لدورها في الحياة البدوية والثقافة العربية، وأبرزوا أهمية الإبل كجزء من الاقتصاد البدوي، بوصفها مصدرًا رئيسًا للغذاء كالحليب واللحم، ووسيلة للتنقل في الصحاري الواسعة، وسلعة قيّمة للتجارة، ولاحظوا دور الإبل في النسيج الاجتماعي للقبائل البدوية، فامتلاكه كان بمنزلة الرمز للثروة والمكانة.
وأشار الغربيون إلى تكيف الإبل مع البيئة القاسية في الجزيرة العربية، وقدرتها على البقاء من دون ماء وتحمل درجات الحرارة العالية، ودرسوا كيفية تربيتها واستخدامها في الرحلات الطويلة عبر الصحراء، والمعرفة التي يمتلكها البدو في رعايتها وتربيتها، وشاهدوا استخدامها في المناسبات الثقافية والدينية، كالحج، حيث كانت الإبل وسيلة النقل التقليدية للحجاج، ودرسوا تكيف المجتمعات البدوية مع التحولات في الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالإبل، وقدّموا رؤية شاملة عن أهميتها في الحياة البدوية في الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، مع مزيج من الاحترام والإعجاب بالإبل. «لوحات المستشرقين ومكنونها في الشرق العربي، الاستشراق يظل إرثًا ثقافيًّا كان له دور في فهم العلاقات بين العالميْنِ الغربي والشرقي».
ويذكر «لوي جاك روسو «أن الجمل يتمتع بالذكاء، ويحتفظ بذكريات مُعاملة صاحبه القاسية، والويل للغريب الذي يُحاول إزعاجه، فإنه ما إن تسنح له الفرصة حتى يطرحه أرضًا ويسحقه تحت خُفه. ويُشير» دبوريه» إلى أن البدو يتعلمون من الإبل، عندما تهب ريح الشمال الحارقة التي تحمل معها أبخرة كبريتية وتيارًا من الهواء لا يرتفع عن مستوى الأرض أكثر من أربعة أو خمسة أقدام، وتتفادى الجمال هذه البلية بغريزة عجيبة. وقد تعلموا منها كيف يقوا أنفسهم من هذه الرياح عند هبوبها، وذلك بالانبطاح على الأرض، وأن يُغطوا رؤوسهم تحت رمال الصحراء الجافة والحارة.
ويقول الرحالة الأوروبي «برترام توماس» الإبل سر الحياة في الصحراء، فهي الوسيلة الوحيدة التي تنقل المسافر إلى النجاة. فإذا مات الجمل في الأماكن الجرداء النائية مات صاحبه، ولهذا يُولي البدوي الإبل الاهتمام الخاص. والجمل هو الرفيق الوديع للبدوي، إذ يكتفي لطعامه بالشوك والحسك، ويتحمل الأتعاب، ويُقاوم أصعب ظروف الطبيعة، كما يتحمل العطش لأيام عديدة، وهو بذلك يُساهم في التخفيف من تعب صاحبه المتجول.
كما اهتمت دراسات الأوربيين بالتاريخ الثقافي للإبل؛ وأبرزت حضوره في النتاج الأدبي والفني لأشهر الأدباء والفنانين الغربيين، وتداخله في الموروث الشعبي للمجتمعات العربية. ومثال ذلك: أصدرت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض كتابًا بعنوان: «شمال نجد: يوميات رحلة استكشافية على ظهور الإبل»، من تأليف ألويس موسيل (1868-1944م)، وصدر أيضًا كتاب بعنوان:» الجمل: التاريخ الطبيعي والثقافي، للكاتب روبرت إيروين، وقد صدر بالإنجليزية في لندن عام 2010م.
وعلى هذا الأساس أصبحت السردية الاستشراقية عن الإبل مرجعًا للدراسات التاريخية المعاصرة عن الثقافة البدوية العربية، وعن طبيعة المجتمع البدوي في الجزيرة العربية على وجه العموم.
الهوامش:
(1) للمزيد حول الإبل ودورها في النقل، ينظر: قصي منصور عبدالكريم التركي، التجارة البحرية بين العراق والخليج العربي خلال الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح، رسالة دكتوراه غير منشورة مقدمة إلى كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة تونس، 2003-2004م، ص257.
(2) المواقع التراثية في منطقة الجوف، سلسلة المواقع التراثية في المملكة العربية السعودية، هيئة التراث السعودية،2023م، ص 6.
(3) صالح، عبدالعزيز، شبه الجزيرة العربية في المصادر المصرية، مجلة عالم الفكر، المجلد. الخامس عشر، العدد الأول ص 302.
** **
د. جمعان عبدالله مسفر الشهراني - باحث في التاريخ الحديث والمعاصر - المملكة العربية السعودية