منصور بن صالح العُمري
أحياناً أتأمل في رحمة البشر لبعضهم فأرى عجباً كيف لقلب بشري أن يسع في جنباته الصغيرة كل هذا الكم الهائل من الرحمة التي ولو وزعت على أهل بلد لوسعتهم، كيف لهذا النهر الجاري من الحنان أن يتدفق بكل هذه القوة من قلب بقدر قبضة الإنسان، كيف يمكن لحامله أن يسقي مشاعر كل الذين يعايشهم بكل ود ولطف ومحبة فلا يزدادون إلا ظمأ إلى حنانه وشوقاً إلى لقائه. لكن عجبي ينقضي حين أرى مثلاً حياً للرحمة التي تتمثَّل في امرأة وهبت حياتها لمن حولها واحتوت قلوبهم وكأنها تنبض من فيض حنانها تدرك بإحساس منها ما يحيط بكل فرد منهم وإن غيبته المسافات فتمتد يد طيبتها إليه مواسية لجراحه مداوية لأوجاعه وكأنه باح لها بكل ما يجثم عليه من هموم، هي ليست طبيبة نفسية فهي لا تقرأ ولا تكتب، وليست عرافة فهي امرأة فاضلة مؤمنة، بسيطة بكل معاني الكلمة لكنها أيضاً عظيمة بكل صورة تخطر في بالك لعظمة الأم، هيا السالم الجعيب أرaملة ودعها زوجها وهو يصطحب جارتها (ضرتها) في حادث مأساوي، رحلا بلا وداع يشفي الغليل وتركا خلفهما ودائع قلبيهما من بنين وبنات بعضهم لها وبعضهم لجارتها، بعضهم صغار لا يزالون يرتعون في براءة الطفولة وبعضهم كبار لكن فقد الأبوين يبكي حتى الكبار وحنان الوالدين لا ينطفئ الشوق إليه ولا يتحمّل قلب مكابدة غيابه فكانت هيا صاحبة القلب الكبير أما للجميع، بل ربما والله يشهد أني صادق في وصفي ربما قدمت إخوة أولادها على من أنجبتهم وبخاصة من بقي في عهدة رعايتها ووديعة لجميل عنايتها، حتى إنك حين ترى تعاملها مع بعضهم تأخذك عاصفة من الحيرة كيف لأم أن تملك مشاعرها فتغدق الأكثر منها لغير من أنجبتهم وتداري خواطرهم وإن تحاملت على نفسها تبحث عن بسماتهم بين ركام آهاتها المخفية ترعى المريض منهم فيفيد من حنانها أكثر مما يجده من طبيبة ويجد منها المهموم ما يذهب همه بابتسامة مشرقة صادقة ونصح عفوي طاهر من قلب لا يحمل إلا أحرف المودة ودعوات من مؤمنة نذرت نفسها لطاعة الله وسلكت لذلك أصعب الطرق وهو التضحية لإسعاد من حولها فلا ترى إلا مبتسمة بشوشة، مضيافة كريمة، ناصحة صادقة، مصلية صائمة، تمضي نهارها برعاية من أعجزتهم أقدار الله عن الاعتناء بأنفسهم على الوجه الذي يكفيهم وتجد راحتها بعد العناء في مسامرتهم والدعاء لهم. هي مجموعة أمهات في جسد أم واحدة وسلة قلوب في فؤاد واحد وحين تنطق باسمها في محيطها الكبير - هيا السالم - لا تسمع مباشة إلا الدعاء لها وحين تحكي قصة واحدة عن حنانها وجميل صفاتها يرد عليك من تحدثه بعشرات الحكايات، هي عين وهبت بصرها لمن حولها، وقلب يستمد نبضه من إسعاد من يحيط بها هي أم علي هيا السالم وكفى فإسمها أكبر من كل قصائد المديح وعبارات الثناء بل إن من يذكرها بخير إنما يحسن لنفسه. أسبغ الله عليها لطفه وجميل عنايته وكتب لها الأجر العظيم والعافية وراحة البال.