صيغة الشمري
كل مهنة في العالم لها طابع خاص، وقوانين تحكمها، وآداب تنظم علاقاتها وأسلوب عملها. فلا يمكن النظر إلى أي حرفة أو وظيفة على أنها مجرد وسيلة للرزق، بل هي منظومة متكاملة من القواعد التي تحدد السلوكيات والممارسات التي يجب الالتزام بها. ومن هذا المنطلق، فإن كل شخص يعمل في مجاله لفترة طويلة يبدأ في تطوير حسٍ نقديّ تجاه أي خلل أو تقصير يراه، سواء داخل مهنته أو حتى خارجها.
خذ على سبيل المثال شخصاً متخصصاً في العناية بالعملاء. ستجده أكثر حساسية تجاه مستوى الخدمة التي يتلقاها في أي مكان يذهب إليه، سواء كان مطعماً، أو مركز اتصال، أو متجر تجزئة. فهو يدرك تماماً ما يعنيه تقديم تجربة مميزة للعملاء، ويفهم أبعاد الاحترافية واللباقة، مما يجعله سريع الملاحظة لأي قصور في هذا الجانب. ولأنه خبير في هذا المجال، فإنه يرى التفاصيل الصغيرة التي قد تغيب عن الآخرين، مثل نبرة الصوت التي تُستخدم للترحيب، أو السرعة التي يتم بها الاستجابة للاستفسارات، أو حتى الاهتمام الذي يُظهره الموظفون بالعميل.
وإذا انتقلنا إلى المجال الإعلامي، سنجد أن الإعلامي المحترف لا يستطيع أن يغض الطرف عن الأخطاء التحريرية أو ضعف التغطية في القضايا الحيوية. فهو متمرّس على تحليل النصوص، ويملك عيناً ناقدة تلتقط الغموض أو التناقض في الخطاب الإعلامي. الخبرة هنا تجعل الإعلامي أكثر وعياً بحجم التأثير الذي يجب أن يتركه الخبر، وطريقة صياغته، ومصداقيته، مما يجعله يرى القصور في العمل الإعلامي بشكل أوضح من الآخرين.
هذه الحالة ليست مقتصرة على مهنة معينة دون الأخرى، بل تشمل كل المجالات. الطبيب مثلاً يصبح قادراً على ملاحظة أي تجاوز في البروتوكولات الصحية، والمعلم يلتقط نقاط الضعف في طرق التدريس، والمحاسب يتفحص الأرقام ويتتبع أي خلل قد لا يلاحظه غيره.
يمكن القول إن الخبرة العملية تمنح صاحبها ما يشبه العين الثالثة؛ عيناً لا ترى فقط ما هو ظاهر، بل تتعمق في التفاصيل، وتدرك أبعاد الأمور. هذه العين الناقدة ليست دائماً سهلة التكيف مع الواقع، بل قد تتحول أحياناً إلى عبء عندما يصبح الشخص أكثر وعياً بالأخطاء من حوله، وأقل قدرة على تجاهلها.
واللافت أن النقد الناتج عن الخبرة لا يكون دائماً سلبياً. فهو في كثير من الأحيان دافع للإصلاح، ووسيلة لتصحيح المسار. الناقد المتمرس لا ينتقد من أجل الانتقاد، بل لأن لديه معايير محددة يعرف أنها قابلة للتحقيق. وحين يرى خللاً، فهو لا يراه من باب الانتقاص، بل من باب الرغبة في التحسين.