جمال قارصلي
إن الحديث عن سوريا ما بعد حكم دام أكثر من خمسة عقود تحت طغيان آل الأسد وزبانيتهم يتطلب منا إدراك حجم الدمار الهائل الذي خلفه هذا النظام، بدءا من الخراب الذي ألحقه بالبنية التحتية، مرورا بالتهجير الواسع للفئات السكانية، وصولا إلى تمزق المجتمع السوري نتيجة للعداءات والفجوات التي زرعها بين مكوناته. كما أدى الاستبداد السياسي إلى تصحر الحياة السياسية والشلل المؤسسي الذي عم جميع قطاعات الدولة، حيث حول سوريا إلى «مزرعة خاصة» له ولعصابته، وبدأ يدير البلد وفقا لأهوائه الشخصية الضيقة بعيدا عن مصلحة الشعب السوري. بعد انهيار النظام، وأثناء الهروب المذل لبشار الأسد، يبقى السؤال الأكثر إلحاحا: كيف يمكن لسوريا أن تتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية؟ وما هي الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف؟
إن محاولة تغيير هذا الواقع المدمر ليست مهمة سهلة. فإرث النظام يبرز في كل زاوية من زوايا الحياة السورية، من البنية التحتية المدمرة إلى النظام السياسي المختل، وصولا إلى النزاع الداخلي والاحتلالات الأجنبية التي قسمت البلد إلى مناطق نفوذ. لكن لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن التغيير قد بدأ بالفعل، وبشكل سريع، وذلك في اليوم الذي انتصرت فيه الثورة السورية بتاريخ 8.12.2024. التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية يتطلب استراتيجية شاملة تأخذ بعين الاعتبار الواقع الحالي، وتنطلق من أسس قانونية جديدة تقوم على المبادئ الأساسية للعدالة، المساواة، وحقوق الإنسان.
وإن أول خطوة في طريق التحول الديمقراطي هي الدعوة إلى مؤتمر وطني موسع، يمثل كل مكونات وفئات المجتمع السوري. هذا المؤتمر يقر أولا بإلغاء دستور النظام، ومن هذا المؤتمر تنبثق حكومة مؤقتة أو يتم انتخاب رئيس حكومة مؤقتة يوكل إليه تشكيل حكومة لإدارة شؤون الدولة إلى أن يتم تشكيل حكومة جديدة بناء على نتائج الانتخابات القادمة. إلى جانب تعيين الحكومة المؤقتة، يشكل المؤتمر عددا من اللجان المؤقتة، منها الدستورية (القانونية) التي تقوم بصياغة إعلان دستوري من أجل ألا يحصل فراغ دستوري، حيث إن المرحلة الانتقالية، والتي من الممكن أن تدوم عدة أعوام، تحتاج إلى آليات دستورية مؤقتة. الإعلان الدستوري هو عبارة عن دستور مختصر يتضمن مجموعة من القوانين تدار بواسطتها البلاد بشكل قانوني إلى أن يتم الاتفاق على دستور جديد للبلاد من أغلبية أفراد المجتمع. هذا الإعلان الدستوري يجب أن يتضمن فصل السلطات، تعزيز حقوق الإنسان، وحماية الحريات العامة وأن يعكس التعددية الثقافية والدينية والسياسية في سوريا.
إلى جانب اللجنة الدستورية يشكل المؤتمر الوطني عددا من اللجان، منها على سبيل المثال القضائية والعسكرية والأمنية والإدارية والاقتصادية والمالية والخارجية. توكل لهذه اللجان مهام استشارية للحكومة المؤقتة. عدد أعضاء اللجان المؤقتة ليس متساويا، لأن عدد أعضاء كل لجنة له علاقة بأهمية ومهمة هذه اللجنة. على سبيل المثال اللجنة الدستورية يجب أن تكون موسعة لكي يستطيع المشاركة فيها كل أطياف المجتمع السوري.
وتعد كتابة الدستور الجديد التحدي الأكبر في المرحلة الانتقالية، حيث يجب أن يشارك في صياغته كل مكونات المجتمع السوري، وليس فئة ضيقة أو نخبة معينة. الدستور يجب أن يكون نتيجة توافق وطني واسع، بحيث فيه ضمانات لحماية حقوق الإنسان، وفصل السلطات، ويضع آليات للمحاسبة والشفافية، ويضمن حقوق المرأة والمجتمعات المحلية، مع الحفاظ على التوازن بين حقوق الأفراد والحقوق الجماعية. من أجل طمأنة مكونات المجتمع السوري أقترح أن تكون السلطة التشريعية مؤلفة من حجرتين على غرار النموذج الأمريكي (الكونغرس) المؤلف من مجلس النواب ومجلس الشيوخ أو كما في ألمانيا هنالك مجلس النواب (البوندستاغ) ومجلس المقاطعات (البوندسرات). الحجرة الثانية تعطي للمحافظات حق الاعتراض على القوانين التي تمس بمصالحها الخاصة ومصالح مواطنيها. لذلك، يجب أن يكون الدستور مرنا بما يكفي لاستيعاب التغيرات المستقبلية دون أن يتحول إلى أداة تكرس الهيمنة. بعد صياغة الدستور الجديد، يتم طرحه على الشعب للتصويت، ويجب أن توافق عليه أغلبية الشعب السوري. بناء على هذا الدستور، تتم الانتخابات التشريعية النظامية.
وبجانب كتابة الدستور، من الضروري وضع قوانين تضمن منافسة سياسية حرة ونزيهة. الديمقراطية ليست فقط إجراء الانتخابات، بل تقتضي أيضا تعددية حزبية ووجود مؤسسات تعكس مختلف وجهات النظر. لذلك، يجب كتابة قانون للأحزاب يضمن تأسيس الأحزاب على أسس قانونية واضحة، بحيث لا يكون هناك أي تهميش أو قمع لأي جهة سياسية. هذا القانون يجب أن يسهم في فتح المجال للعديد من الأحزاب السياسية لتنافس بشكل عادل، بعيدا عن أي تدخلات من النظام أو من الأجهزة الأمنية.
إن التصحر السياسي والمأساة التي خرجت منها سوريا يدعوان إلى التريث قليلا وإعطاء الأحزاب الجديدة الفرصة الكافية من أجل تنظيم بيتها الداخلي ومرحلة كافية للنضوج الديمقراطي قبل أن تتم الانتخابات التشريعية، لأن الديمقراطية شيء له علاقة بالتربية، وهي تبدأ من البيت وفي المدرسة، وإن لم يمارسها الفرد والمجتمع فلن يستطيع أن يتعلمها من خلال الكتب أو بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي.
إلى جانب قانون الأحزاب الذي ينظم ويكفل حرية تشكيل الأحزاب، يجب أن يكون هناك كذلك قانون للانتخابات يضمن رقابة مستقلة شفافة ونزيهة.
وفي هذه المرحلة الانتقالية، من المهم ضمان أن الأشخاص المؤهلين يتسلمون المناصب العامة. النظام السابق دمر آليات الاستحقاق وحول التعيينات إلى محاباة ومحسوبية. لذلك يجب أن يتم تحديد الكفاءات اللازمة لإدارة الدولة بعيدا عن الخلفيات الحزبية والطائفية. يجب أن تكون هناك آلية لتعيين الأشخاص الأكفاء في المناصب العامة. إن هذه الخطوة ضرورية لإعادة بناء الثقة بين الحكومة والشعب، ولضمان إدارة فعالة وشفافة تراعي مصالح الجميع. هذا ما سيفتح الباب ويصبح عاملا مشجعا للكثير من المغتربين السوريين الذين لديهم كفاءات وخبرات كبيرة في مجالات كثيرة للعودة إلى وطنهم الأم والانخراط في بناء الوطن مع أبناء الوطن المخلصين، حيث من المعروف بأن أغلى ثروة يملكها الوطن هي الإنسان، ولهذا علينا أن نعمل كل ما بوسعنا لإرجاع الثروات المهاجرة والتي شبهتها في الكثير من المواقع بـ «الذهب السوري».
على أن تحقيق دولة مدنية ديمقراطية في سوريا يتطلب معالجة الجراح التي خلفها النظام الاستبدادي. العدالة الانتقالية هي ضرورة للشفاء والتعايش، وهي تتضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبها النظام، إضافة إلى تعزيز المصالحة الوطنية. هذه العدالة تتطلب آليات قانونية تكشف الحقيقة حول الانتهاكات التي حدثت طوال حكم الأسد، إضافة إلى توفير تعويضات للضحايا. يتعين أن تشمل هذه العملية محاكمات عادلة وشفافة، لكنها لا تقتصر على المعاقبة، بل يجب أن تشمل أيضا العمل على تعزيز التعايش السلمي من خلال إشراك الضحايا في عملية بناء السلام والمصالحة.
إن بناء دولة مدنية ديمقراطية في سوريا هو هدف نبيل يتطلب جهودا جماعية من جميع الأطراف المعنية. المرحلة الانتقالية ستكون مليئة بالتحديات، ولكنها الفرصة الوحيدة لبناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة. يحتاج السوريون إلى العمل معا لضمان تحقيق هذا الهدف، مع إعطاء الأولوية للشفافية والكفاءة في إدارة شؤون الدولة. يجب أن تكون هذه المرحلة الانتقالية خطوة نحو استعادة الهوية الوطنية، وتوحيد السوريين بعيدا عن الانقسام، وأن تكون بداية لمستقبل مشرق يحقق العدالة لكل المواطنين ويضمن حقوقهم وحرياتهم رغم التحديات الكبيرة.
** **
- نائب ألماني سابق