د. محمد بن أحمد غروي
شهدت منطقة جنوب شرق آسيا في عام 2024 سلسلة من التطورات السياسية والاقتصادية، والجيوسياسية التي تعيد صياغة المشهد الإقليمي وتضعه أمام تحديات وفرص جديدة. جاء هذا العام محملاً بانتقالات قيادية في دول رئيسية، مثل إندونيسيا، وتايلاند، وسنغافورة، ما يعكس اتجاهاً نحو تمكين جيل جديد من القادة الذين سيعيدون تشكيل توجهات دول آسيان خلال السنوات القادمة.
برزت إندونيسيا كأحد مراكز الثقل في المنطقة بعد تنصيب برابوو سوبيانتو رئيساً للجمهورية، مع نائبه كاهريل ويدودو، ابن الرئيس السابق جوكو ويدودو، وركزت القيادة الجديدة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجالي الغذاء والطاقة، وهي رؤية طموحة في ظل التحديات البيئية والاقتصادية المتزايدة، كما تستمر السياسة الخارجية الإندونيسية في نهجها غير المنحاز، ما يبرز رغبتها في تحقيق التوازن بين علاقاتها مع القوى الكبرى، دون الانحياز الكامل لأي منها، مع موقف ثابت ضد الاستعمار ودعم القضايا الإنسانية العالمية.
بتنصيب بيتونغتارن شيناواترا، ابنة رئيس الوزراء السابق تاكسين شيناواترا، دخلت تايلاند مرحلة جديدة من تاريخها السياسي، فيما تواجه الحكومة الجديدة تحديات كبيرة، أبرزها تحفيز الاقتصاد وتعزيز السياحة، التي تشكل ركيزة أساسية للناتج المحلي. ومع ذلك، يُتوقع أن تواجه بيتونغتارن صعوبات في التوفيق بين الطموحات البيئية ومعارضة جماعات المصالح الاقتصادية التقليدية.
أما في سنغافورة، أدى لورانس وونغ اليمين الدستورية كرئيس وزراء جديد، في حدث يمثل أول تغيير للقيادة منذ عقدين، فالتحديات أمامه لا تتعلق فقط بالحفاظ على موقع سنغافورة الريادي إقليمياً، بل أيضاً بالاستماع إلى أصوات الشباب وتعزيز التنوع الثقافي، ومع اقتراب الانتخابات العامة في 2025، يعتمد وونغ على كسب ثقة الناخبين، وهو اختبار حقيقي لقدرته على إدارة توازن دقيق بين الحداثة والقيم التقليدية.
كانت قمة آسيان التي عُقدت في فينتان، عاصمة لاوس، محطة بارزة في العام، وللمرة الأولى منذ 2021، حضر ممثل عن المجلس العسكري في ميانمار القمة، ما يعكس جهود الرابطة في إيجاد تسوية دبلوماسية للأزمة التي طال أمدها، أما على الصعيد الاقتصادي، أقرت آسيان اتفاقية استثمار شاملة لتعزيز التكامل الإقليمي، لكن قضايا جيوسياسية مثل بحر الصين الجنوبي ظلت تؤرق المنطقة.
في هذا السياق، اشتدت التوترات بين مانيلا وبكين حول النزاعات البحرية، في حين استمرت الصين في توجيه اتهاماتها إلى «قوى خارجية» بالتسبب في زعزعة الاستقرار، ويعكس هذا المشهد تعقيد العلاقات الإقليمية، حيث تسعى دول آسيان لتحقيق التوازن بين النفوذ الصيني وضمان استقلالها الإستراتيجي.
مع اقتراب رئاسة ماليزيا لرابطة آسيان، تتطلع الحكومة بقيادة أنور إبراهيم إلى تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، وتعد قمة آسيان- مجلس التعاون الخليجي والصين المرتقبة نقطة تحول كبيرة، حيث ستتيح تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الكتل الثلاث، مما يعكس رؤية طموحة لماليزيا في استغلال رئاستها لتعميق الروابط الدولية.
مع دخول المنطقة عام 2025، يبدو أن جنوب شرق آسيا أمام مرحلة حرجة تتطلب من قادتها الجدد تقديم رؤية متماسكة لمواجهة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية، وتبقى آسيان لاعباً رئيسياً في تحقيق الاستقرار الإقليمي، لكن قدرتها على الاستجابة السريعة للأزمات المتزايدة ستحدد مستقبلها ككتلة مؤثرة على المسرح العالمي.