عبدالوهاب الفايز
في بدايات إطلاق رؤية السعودية 2030، قال سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - إن رؤيته تطمح لتحول الشرق الأوسط إلى أوروبا الجديدة. عندما قال ذلك، كانت المنطقة تعج بالفوضى والاضطرابات والمستقبل القاتم. وكانت بلاده تتلمس طريق التحول، ومخاوف أسعار البترول ماثلة، والوضع الاقتصادي لا يبدو أنه بأفضل صورة.
الآن بعد مرور أقل من 8 سنوات (بما فيها سنوات الجائحة)، يظهر التحول هائلاً، وتبدو مشاريع التحول الاجتماعي والاقتصادي والتنموي تُرى بالعين المجردة، كما قال الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة أمس الأول خلال الاحتفال السنوي لبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية «ندلب»، وهو واحد من أهم برامج رؤية 2030، ويُعنى بتكامل وتنسيق أعمال الجهات الحكومية مثل الطاقة والصناعة والنقل واللوجستيات لضمان تحقيق المستهدفات بدقة عالية.
لقد تحولت الرؤية إلى ملهمة للدول الأخرى، وللمنطقة بشكل عام، ويمكن أن نستشهد هنا بمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول أوابك التي عدلت ليكون اسمها «المنظمة العربية للطاقة»؛ وهذا استجابة لمقترح سعودي تم تبنيه في مؤتمر المنظمة الأخير الذي انعقد في الكويت.
هذه المنظمة إذا تم تحقيق التحول الذي يأخذها للعمل على منظومة الطاقة الجديدة المتوسعة لتتجاوز الاهتمام فقط بالبترول والغاز، سوف توازي أهمية جامعة الدول العربية، بل ربما تكون جبهة العمل الجديد التي تحتاجها الدول العربية بعد حالة التحول الكبير الذي تعيشه المنطقة، وبعد استمرار أهمية المنطقة الاقتصادية الهائلة بثرواتها الطبيعية التي سوف تظل في محور اهتمام ومطامع القوى الكبرى.
هذه المطامع المستقرة في سياسات القوى العظمى يمكن أن تكون فرصة للبناء والتعمير بدل أن تكون مطمعاً يجر الحروب والصراعات، فالثروات الطبيعية من البترول والغاز ثروات ناضبة، والسياسات الاقتصادية الحكيمة هي التي تعظِّم الاستفادة منها عبر رفع كفاءة الاستثمار والاستهلاك، وتحقيق الهدفين لن تحققه دولة بمفردها دون إقامة التحالفات والشراكات الاستراتيجية مع الدول والتجمعات الاقتصادية التي لديها قدرات التقنية، ولديها إمكانيات التمويل لتكوين (سوق اقتصادية بكل ما تعنيه من معنى).
هنا تأتي أهمية إيجاد منظمات عربية تعمل وتركز كل جهودها في مجال تعظيم استفادة الشعوب العربية من ثرواتها، وهنا تبرز الأسباب الموضوعية الفنية للاستفادة من التجربة السعودية في مجال الاستثمار والاستخدام للطاقة.
فالتجربة السعودية بدأت حقبة جديدة مع التوجه لإعادة هيكلة منظومة الطاقة، التي وضعتها تحت إشراف ومسؤولية وزارة الطاقة، لتحقيق مستهدفات (رؤية السعودية 2030)، وهذه ساهمت في نقل القطاع من حقبة الاهتمام بالبترول والغاز إلى الحقبة الجديدة التي يتجه لها العالم: إنتاج الطاقة بكافة أشكالها. وهذه جلبت مكتسبات سريعة واقعية خلال بضع سنوات، فالبرامج والمبادرات الطموحة بدأ تطبيقها للوصول إلى المزيج الأمثل للطاقة، عبر إدخال الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتمثل نصف إنتاج المملكة من الكهرباء خلال أعوام قليلة، والنصف الثاني بالاعتماد على الغاز، بالإضافة إلى البرامج المناخية.
الدول العربية بحاجة إلى استثمارات كبيرة لإنتاج الكهرباء، وهذا ينسحب على الدول البترولية وغير البترولية، فالكهرباء أصبحت قضية وجودية تمس مقومات الأمن الوطني للدول، فالاستمرار في إنتاج واستهلاك الكهرباء بالطرق التقليدية القديمة لن يخدم متطلبات التنمية المستدامة، والطلب على الكهرباء يتصاعد عالمياً بشكل مخيف مع دخول تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتوليد العملات الرقمية التي تستهلك كميات هائلة من الكهرباء، وهذا الطلب العالمي هو الذي جعل مفهوم أمن الطاقة حاضراً في كل مجالات صنع السياسات العالمية في مجال الطاقة، وتؤثر بقوة على الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية.
وهذا ما أنجزته سياسات الحكومة السعودية، فالاستثمار الأمثل للموارد أدى إلى حفظ ما يقارب مليون برميل من البترول كانت تحرق لإنتاج الكهرباء، وتوفير استهلاك البترول يتم استثماره في الصناعات البتروكيميائية، وفي تعظيم مداخيل الخزينة العامة للدولة للصرف المستدام على البرامج التنموية، ودعم قدرة المملكة الإنتاجية لتكون في خدمة استقرار أسعار النفط. وهنا يمكن أن نضرب مثالاً بسيطاً يتمثل في أن سياسات الحكومة التي طبقت لرفع كفاءة استهلاك الطاقة فقط، وفرت أكثر من 539 ألف برميل نفط مكافئ يومياً من استهلاك الطاقة الأولية حتى عام 2023م وذلك بحسب موقع كفاءة الطاقة. ولا ننسى أن السعودية لديها أول تجربة في المنطقة لتعظيم الاستفادة من البترول. فقبل خمسين عاماً كان القرار الاستراتيجي التاريخي لإنشاء مدينتين صناعيتين للبتروكيماويات في الجبيل وينبع، وكذلك إنشاء شركة سابك لتكون قاطرة صناعة البتروكيماويات في المملكة، لتستثمر الغاز الذي كان يطلق في الهواء نظراً لعدم وجود جدوى آنذاك من فصله واستثماره.
وهذه تقدم قصة نجاح كبرى وفيها حالات دراسية عديدة لكيفية بناء المشروعات العملاقة، وفيها دروس في كيفية إقامة الشركات والتحالفات مع عمالقة الصناعة الذي يمتلكون التقنية وحقوق براءات الاختراعات، ولعلنا نتذكر كيف كانت الصحافة الغربية تسخر من تجربة (البدو الذين يريدون إنتاج البتروكيماويات من الصحراء). كذلك شركة أرامكو السعودية لديها الكثير من قصص النجاح والدروس والتجارب التي تقدم الفرصة للتعلم في مجالات عديدة، هذه التجارب السعودية سوف تكون متاحة للدول العربية التي ترغب الاستفادة منها.
والسعودية عندما تضع قدراتها وإمكاناتها لخدمة الدول العربية والإسلامية، فهي تنطلق من منهج ثابت وضعه الملك عبد العزيز - يرحمه الله -، وهو ما أكدت عليه رؤية المملكة، وما يؤكد عليه دوماً سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فالرؤية تستهدف أن تكون ملهمة، ليس للسعودية، بل للشرق الأوسط. والنمو الاقتصادي في العالم العربي والشرق الأوسط تخدمه وتعززه مشاريع المملكة في الطاقة.
الدول العربية مجتمعة سوف تنجز الكثير من الخير لشعوبها إذا تبنت برنامج التحول السعودي. ولعل مجال الطاقة هو المرتكز الذي تبنى عليه الشراكات الاستراتيجية الصادقة والمنتجة والمفيدة للشعوب، التي تضمن أمنها واستقرارها الاقتصادي والمعيشي.