د. سفران بن سفر المقاطي
الحكاية والتاريخ، موضوعان لا يتجزآن، ويتداخلان في تشكيل نسيج الإنسانية الذي نعيشه. فالحكاية، بمفهومها الواسع، هي سرد لأحداث متسلسلة تحمل في طياتها العبر والمعاني، وقد استخدمت منذ القدم وسيلة لتدوين التاريخ ونقله عبر الأجيال.
من جهة أخرى، يعد التاريخ مرآة للحكايات الإنسانية، فهو يضم بين دفتيه قصص الشعوب والحضارات والأفراد، موثقًا إياها وناقلًا لها لتصبح مرجعًا للمستقبل، وبذلك تتشابك خيوط الحكاية والتاريخ لتشكل نسيجًا معقدًا من الروايات التي تحكى عن الانتصارات والهزائم، الاكتشافات والغزوات، الثورات والتحولات الاجتماعية. فالتاريخ ليس مجرد تسجيل للأحداث، بل هو تفسير لها وإعادة بناء للسياقات التي وقعت فيها. وبالمثل، لا تقتصر الحكاية على الخيال والتسلية فحسب، بل تعد مصدرًا للمعرفة والحكمة، وأداة لفهم الذات والعالم. لهذا يمكن القول إن الحكاية هي الشكل الأولي للتاريخ، حيث كان الرواة ينقلون الأحداث البارزة عبر القصص والأساطير. ومع تطور الكتابة والتدوين، بدأ التاريخ يأخذ شكله الأكثر تنظيمًا ودقة. ومع ذلك، ما يزال السرد القصصي يؤدي دورًا محوريًا في تفسير الأحداث التاريخية، فالقصص تضفي حياة وعمقًا على الحقائق الجافة، وتساعد على تذكر الأحداث وفهمها بشكل أفضل. وفي العصر الحديث، أصبحت الحكاية أداة قوية في يد المؤرخين والكتّاب لإعادة تشكيل فهمنا للتاريخ، من خلال الروايات الشخصية والتحليلات النقدية، يتم إعادة تقييم الأحداث والشخصيات التاريخية، مما يسمح بظهور تفسيرات جديدة وأكثر تعقيدًا. وهكذا، تصبح الحكاية ليست فقط مرافقة للتاريخ، بل جزء لا يتجزأ منه، تسهم في تشكيله وإعادة صياغته.
إن دراسة تاريخ الحكاية وحكاية التاريخ تفتح أمامنا أبوابًا للتأمل في كيفية تأثير السرد القصصي على تصوراتنا للماضي والحاضر والمستقبل؛ فكل حكاية تحمل في طياتها جزءًا من التاريخ، وكل لحظة تاريخية تحتوي على عناصر الحكاية، وبهذا فإن الحكاية والتاريخ يتشاركان في رسم ملامح الهوية الإنسانية وتطورها عبر الزمن، وتؤدي الحكاية دورًا مؤثرًا في تاريخ البشرية، بوصفها أداة لنقل الثقافة والقيم والتجارب الإنسانية عبر الأجيال.
وتحمل الحكايات في طياتها الحكمة والمعرفة والأخلاق، وتعمل كجسر يربط الماضي بالحاضر، ويمهد الطريق نحو المستقبل، ومن خلالها نتعلم عن الأبطال والشخصيات التاريخية، فنستلهم الشجاعة والتضحية، ونفهم الأخطاء التي يجب تجنبها، ولأن الحكايات تعزز الهوية الجماعية وتساعد في تشكيل الوعي الجمعي؛ فهي تقدم نماذج للسلوك الإنساني، وتعكس الأيديولوجيات والمعتقدات التي تشكل مجتمعاتنا. كما أنها تسهم في تطوير اللغة والتعبير، وتوفر إطارًا للتفكير النقدي والتحليل الأدبي. وهي أيضًا مصدر للإلهام الفني، حيث إنها تُستخدم في الأدب والسينما والمسرح وغيرها من الفنون.
وفي السياق التاريخي، تُعد الحكايات سجلات حية للأحداث والعادات والتقاليد؛ فقد كانت الحكايات الشفهية هي الوسيلة الأساسية لتدوين التاريخ قبل اختراع الكتابة، وحتى بعد ذلك، ظلت الحكايات تحتفظ بدورها في توثيق الأحداث وتفسيرها، وفي منْح الأحداث التاريخية بُعدًا إنسانيًا، وتسمح لنا بفهم السياقات الاجتماعية والثقافية التي شكلت تلك الأحداث؛ فيتحقق التنوع الثقافي والتسامح، ومن ثم احترام الثقافات والتقاليد المختلفة. وفي كل ثقافة، هناك حكايات تاريخية تمثل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية والتراث الثقافي، تتناقلها الأجيال وتحمل في طياتها القيم والمبادئ التي تشكل الأساس الأخلاقي والاجتماعي للمجتمع، وفي السياق التاريخي تُعد الحكايات سجلات حية للأحداث والعادات والتقاليد، فقد كانت الحكايات الشفهية هي الوسيلة الأساسية لتدوين التاريخ قبل اختراع الكتابة، وحتى بعد ذلك، ظلت الحكايات تحتفظ بدورها في توثيق الأحداث وتفسيرها، وفي منْح الأحداث التاريخية بُعدًا إنسانيًا، وتسمح لنا بفهم السياقات الاجتماعية والثقافية التي شكلت تلك الأحداث؛ فيتحقق التنوع الثقافي والتسامح، ومن ثم احترام الثقافات والتقاليد المختلفة.
وفي كل ثقافة، هناك حكايات تاريخية تمثل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية والتراث الثقافي، تتناقلها الأجيال وتحمل في طياتها القيم والمبادئ التي تشكل الأساس الأخلاقي والاجتماعي للمجتمع، فعلى سبيل المثال لا الحصر هذه أمثلة على الحكايات التاريخية في الثقافات المختلفة:
في الثقافة العربية، هناك حكايات مثل «ألف ليلة وليلة» التي تضم مجموعة من القصص الشعبية المفعمة بالمغامرات والدروس الأخلاقية. كما أن هناك شخصيات تاريخية مثل عنترة بن شداد والزير سالم التي تجسد الشجاعة والفروسية. وتُعد حكاية «قصة حي بن يقظان» لابن طفيل، التي تروي قصة شاب نشأ وحيدًا في جزيرة معزولة، وتوصل إلى معرفة الله والكون بالعقل والتأمل، من الحكايات الفلسفية المؤثرة في الثقافة العربية. وهناك أيضًا «كليلة ودمنة»، وهي مجموعة من القصص التي تستخدم الحيوانات لتقديم النصح والموعظة. وفي الأدب العربي، يحتل الشعراء الجاهليون مكانة مرموقة، حيث تُروى قصائدهم وأشعارهم كحكايات تاريخية تعبر عن الحياة العربية قبل الإسلام. كما أن شعراء مثل امرئ القيس والمتنبي وابن زيدون، تُعتبر أشعارهم تحفا فنية تنقل القارئ إلى عصور مختلفة، وتعكس الجوانب الروحية والعاطفية للثقافة العربية. كما تبرز الحكايات الشعبية كحكايات «جحا»، التي تمثل الحكمة والذكاء الشعبي، وتضمن في طياتها نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا بنكهة ساخرة. هذه الحكايات، وغيرها، تشكل عنصرًا أساسيًا في الذاكرة الجماعية، وتعزز الهوية الثقافية والوطنية. إنها تجسد الأمل والطموح والتحديات التي واجهتها الشعوب، وتبين كيف أن القصص تحفظ التاريخ وترويه بأسلوب يلامس القلوب والعقول. الحكايات التاريخية لا تقتصر على كونها مجرد روايات من الماضي، بل هي دروس متجددة قد تؤثر في مستقبل الأجيال الصاعدة.
وفي الثقافة الغربية، تُعتبر الحكايات الأسطورية مثل «أوديب» لهوميروس و»ملك جراهام وسكينه» لشيكسبير من أبرز الأمثلة على الحكايات التاريخية التي تعكس القيم والعادات الاجتماعية في عصورها. والأساطير اليونانية والرومانية مثل إلياذة وأوديسة لهوميروس، وكقصص البطل العظيم أخيلس ورحلته إلى الأساطير اليونانية، معكوسة القيم القتالية والفضيلة التي كانت محورية في الثقافة اليونانية القديمة. وأيضا كقصة فيليقية وبيرسيفون لأوفيدوس والتي تروي هذه القصة العميقة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وكيف تؤثر الأساطير على تشكيل العلاقات الإنسانية.
أما في الثقافة الهندية، تُعتبر الحكايات الملاحمية مثل «مهابهاراتا» و»رامايانا» من أبرز الأمثلة على الحكايات التاريخية التي تعكس القيم والعادات الاجتماعية في عصورها. كما تُعتبر روايات مثل «المخطوطات الملاحمية» التي تحكي عن الأبطال والملوك في الهند القديمة، من أشهر الحكايات التي تناقلتها الأجيال وتأثرت بها.
أيضا، تحتل الحكايات الدينية مرتبة مرموقة لدى العرب والمسلمين، كقصص الأنبياء المسطرة في القرآن الكريم، التي تزرع بذور الصبر والتقوى والإيمان في قلوب المؤمنين. قصص كنوح والطوفان، وإبراهيم وبناء الكعبة بمكة، وموسى في مواجهة فرعون. وكقصص الصحابة الكرام مثل «قصة سعد بن معاذ» أو «قصة عائشة رضي الله عنها»، والتي تُستخدم لتعليم القيم الدينية والأخلاقية مثل الإخلاص والتقوى والصدق. والتي تحمل دلالات رمزية غنية لديهم، وتستخدم كأمثلة للعظة والعبرة والاستفادة منها في ممارساتهم الدينية وحياتهم اليومية.
وفي الثقافة السعودية، تلعب سردية القصص دورًا مهمًا في نقل القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية، بالإضافة إلى تعزيز الروابط الاجتماعية والعائلية. يتم تمثيل هذه السردية عبر القصص الشعبية والأساطير والحكايات التي تناقلتها الأجيال عبر الزمن. فيما يلي بعض الأمثلة على سردية القصص في الثقافة السعودية؛ فعلي سبيل المثال لا الحصر: قصة «الأمام محمد بن سعود»، مؤسس الدولة السعودية الأولى، أو قصة «الملك عبد العزيز»، الذي قاد المملكة إلى الوحدة والاستقرار. تُروى هذه القصص لتعزيز الولاء للوطن والفخر بالتاريخ السعودي.
وفي العصر الحديث، أصبحت الحكاية أداة قوية في يد المؤرخين والكتّاب لإعادة تشكيل فهمنا للتاريخ، من خلال الروايات الشخصية والتحليلات النقدية، حيث تتم إعادة تقييم الأحداث والشخصيات التاريخية، حتى تعطي تفسيرات جديدة وأكثر عمقا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك كتاب «قصة سعودي: قراءات ووقفات بحثاً عن الوعي»، لإياد أمين مدني، الذي صدر باللغة الإنجليزية في 336 صفحة في شهر جون 2023م، والذي يمثل نموذجا حديثا لأسلوب الحكاية في تناوله سلسلة من القضايا والأحداث المحلية والإقليمية والعالمية التي ارتبطت بمسيرة حياة المؤلف وتأثيرها على تشكيل هويته الفكرية وعلى توجهات السعوديين في رحلة بحثهم عن الوعي والحداثة والهوية.
ويحلل المؤلف هنا المفاهيم الفكرية المرتبطة بالتأثيرات التي شكلت وعيه الشخصي والوعي الجمعي السعودي، ويسرد الأحداث المحلية والعالمية التي واكبتها بطريقة شيقة وممتعة بلغة إنجليزية راقية بأسلوب السرد القصصي الذي يناسب عقلية القارئ الغربي. وبالتالي أدت سردية القصص في الثقافة السعودية دورًا أساسيًا في نقل القيم والعادات والتقاليد من جيل إلى آخر. إذ تُستخدم هذه القصص لتعليم الأطفال، وتعزيز الروابط الاجتماعية، والحفاظ على الهوية الثقافية والدين.
وفي الختام، يبرز التشابك الدقيق بين فن السرد القصصي وعملية تدوين التاريخ. ومع التطور التكنولوجي وتقدم منهجيات البحث التاريخي الحديثة، أصبح من الممكن استخدام القصص بأساليب مبتكرة، مما يوفر لنا فهمًا أعمق ورؤية أكثر شمولية للتاريخ يمكننا تطبيقها على واقعنا، وللجمع والربط بين الماضي والحاضر والمستقبل من خلال الاهتمام بتاريخ القصص والتعمق في دراسة السرديات التاريخية المختلفة، مما يضمن استمرارية نمو وتطور التراكم العلمي في مجال البحث التاريخي للحاضر والمستقبل. وباستيعاب دور السرد القصصي في تعميق فهم التاريخ وشعور الاجيال به واعتزازهم بمنجزات دولتهم وقادتها، يتعين على الجهات المعنية في التاريخ والتراث والثقافة وصانعي الافلام والمسلسلات التاريخية تطبيق ذلك في سرد نجاحات حكام هذه الدولة المباركة في توحيد المملكة واستمرارية نهضتها التي نعيش حاليا مرحلة فريدة ومتميزة، أفصح عنها تقرير رؤية المملكة الطموحة 2030م وتحقيق نسب انجاز كبيرة خلال العام الماضي 2023م قبل أن تصل الرؤية إلى مداها الزمني المستهدف 2030م.