د.فهد بن دخيل العصيمي
لا يخفى على شريف علمكم بأن مفهوم الصحة أعم وأشمل من انعدام المرض فحسب، وقد تم تعريف الصحة في ديباجة دستور منظمة الصحة العالمية بأنها: «حالة من اكتمال السلامة جسديا ونفسيا واجتماعيا، لا مجرد انعدام المرض أو العجز»، وأيضا تعرف منظمة الصحة العالمية مصطلح (العافية النفسية) بأنها جزء لا يتجزأ من الصحة؛ وهي «حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة، والتكيف مع حالات التوتر العادية، والعمل بشكل منتج ومفيد، والإسهام في مجتمعه المحلي». وقد أكدت هذه المنظمة كذلك على أهمية الجانب الروحي باعتباره أحد الأركان الأربعة للصحة إضافة للجوانب الجسدية والنفسية والاجتماعية.
ولذلك، تدعو معظم مدارس الطب النفسي والعلاج النفسي العالمية لاستكشاف الخلفية الدينية والثقافية والاجتماعية للمرضى أثناء مرحلة التقييم، ثم الاستفادة منها أثناء فترة العلاج بالطريقة المناسبة. وبالرغم من ميل بعض ممارسي الطب النفسي والعلاج النفسي في الماضي لتجنب العوامل الروحية، لاعتبارات يضيق المجال عن ذكرها؛ فإن هناك عودة كبيرة في الأعوام الأخيرة للاستفادة من الجانب الروحي بأفضل طريقة ممكنة، ويتوافق ذلك مع سيادة النظرة التعددية والتكاملية لمسببات وطرق علاج الاضطرابات النفسية (مقارنة ببعض المدارس النفسية الدوغمائية القديمة التي تتحيز لمدارس علاجية معينة بلا برهان)؛ ومن ذلك تغير بوصلة الموجة الثالثة للعلاج النفسي تجاه تقبل المعاناة، وعيش حياة ذات معنى، بما يتوافق مع قيم المريض؛ وألا يقتصر هدف العلاج النفسي على تقليل الأعراض النفسية فحسب كما هو الحال في بعض الموجات السابقة من العلاج النفسي، وبالذات العلاج السلوكي.
وبالنسبة للمسلمين، فلن يجد الممارس النفسي صعوبة تذكر في دمج الجانب الديني ضمن ممارسات الطب النفسي بمفهومها الواسع؛ وذلك نظرا لأن مفهوم الدين لدى المسلمين هو منهج حياة عميق يتضمن مجموعة أنظمة الاعتقاد والعبادة والمعاملات، وتنظيم علاقة الإنسان بنفسه، وبأخيه الإنسان، وبالكون، وبخالق الكون؛ ولا يقتصر على جانب روحي منعزل كما هو الحال في بعض الديانات الأخرى. ويؤمن المسلم بمركزية الدار الآخرة، وأن طريق الحياة الطبية في هذه الدنيا معبد بالإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك فإنه يسعى لكي يعيش حياة ذات معنى؛ وليست مقتصرة على السعي خلف ملذات الدنيا على حساب الفوز بنعيم الآخرة.
وكذلك يعد النقل الصحيح الصريح من (كتاب الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) أحد مصادر المعرفة (اليقينية) لدى المسلمين؛ ولذلك نؤمن بلا ريب بما ورد من فضل وفوائد نفسية/ اجتماعية نتيجة الالتزام بالمعتقدات والممارسات الدينية الصحيحة على أكمل وجه. ولا عبرة بوجود دراسات تجريبية تثبت نجاح هذه التدخلات من عدمه؛ لأنه يصعب دراسة هذه الأمور تجريبيا أسوة بالتدخلات النفسية الأخرى، إن لم يكن ذلك مستحيلا؛ والثابت بالبرهان كالثابت بالعيان، واليقين لا يزول إلا بيقين مثله، وإنما الشك يزال باليقين، وليس العكس.
وقد أظهرت دراسة وطنية سعودية حديثة بدعم من المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية بالسعودية، وشملت 4547 مشاركا من عامة الناس، بأن 52 في المائة من عينة الدراسة يؤمنون بأن ضعف الوازع الديني هو أحد الأسباب الرئيسة للاضطرابات النفسية، بينما عزا ثلث العينة ذلك للإصابة بالحسد، والعين، والسحر؛ وقد أيد 58 في المائة من العينة استخدام الممارسات الروحية والدينية (مثل تلاوة القرآن الكريم والرقية) ضمن العلاجات الفعالة للاضطرابات النفسية، بل يرى ثلثا العينة أن قراءة القرآن الكريم واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي أحد سبل الوقاية الفعالة من الاضطرابات النفسية. (Senitan M, 2024)، وقد لا يتفق الممارسون النفسيون بالضرورة مع هذه الاتجاهات المذكورة في هذه الدراسة؛ ولكنهم بالطبع لا يستطيعون تجاهلها في فهم معاناة المرضى، والسعي لمساعدتهم بكل الطرق الممكنة.
وبالرغم مما سبق ذكره، فما زال هناك تحفظ من بعض الأطباء النفسيين المسلمين في نقاش الجانب الديني الإسلامي ضمن الخطة العلاجية لأسباب غير مفهومة؛ وفي المقابل، لا يجد بعضهم غضاضة في نصح مرضاه باللجوء لليوقا وأمثالها من الممارسات ذات الطابع الديني غير الإسلامي؛ بالرغم من افتقارها لأي دليل قاطع على فعاليتها ضمن خط العلاج الأول لأي مرض سواء أكان جسديا أو نفسيا.
من ناحية أخرى، قد يبالغ بعض الممارسين النفسيين في وعظ المرضى، وتقريعهم باسم الدين؛ مما قد ينفرهم من زيارة العيادة النفسية، بل حتى من الدين نفسه، وقد حث الإسلام الدعاة للدين نفسه، فما بالك بالأطباء، للاقتصاد والحكمة في الدعوة للدين، حيث يقول سبحانه وتعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، مخافة السآمة عليهم؛ ومعنى ذلك أنه يراعي أحوال المستمعين، وإقبالهم، فيعظهم حينا بعد حين، فلا يكثر ذلك عليهم؛ لئلا يحصل لهم السآمة والملل.
وعطفا على ما سبق ذكره، فأرى أنه لا بد من إدماج الجانب الديني/ الروحي في الرعاية النفسية؛ لأنه جانب مهم وفعال لدى المرضى، مع الأخذ بالاعتبار ما يلي:
1) إن تشمل المقابلة الأولى في العيادة النفسية كما هو متعارف عليه بحسب المعايير العالمية، استقصاء مدى التأثر السلبي للمريض وظيفيا بسبب المرض النفسي، ومن ذلك مدى قدرته على أداء مهامه اليومية المعتادة قبل المرض مثل رعاية الذات والعائلة والوظيفة والتواصل الاجتماعي، ويدخل ضمن ذلك قدرته على الاستمرار في أداء عباداته الروتينية مثل الصلاة والصيام.. الخ؛ وكذلك يدخل ضمن مكونات المقابلة الأولى في العيادة النفسية استكشاف التاريخ الشخصي للمريض: بدءا من ولادته مرورا بدراسته وتاريخه الوظيفي، وانتهاء بعلاقته بزوجته وأطفاله، مع استقصاء جوانب شخصيته السابقة للإصابة بالمرض، وكيفية تكيفه مع الضغوط بما في ذلك استعمال التدخين والمواد المحظورة؛ ويدخل ضمن ذلك استكشاف الجانب الديني للمريض على مستوى المعتقدات والممارسات.. الخ.
2) يجب على الطبيب/ المعالج النفسي أن يحذر من لوم المريض أو الحكم السلبي عليه، بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب معتقداته أو ممارساته الدينية؛ وينتبه لأي مشاعر نقل مقابلة سلبية نتيجة لاختلاف المعتقدات مع المريض، وقد لا يمكن تلافي تلك المشاعر، ولكن يمكن بالطبع التعامل المهني معها بما يقتضيه الحال، وعلى هذا يتم التدريب المؤسسي للممارس أثناء مراحل التدريب الأكلينيكية.
3) استنادا لتقييم المريض وفهمه، ينبغي إدماج الجانب الديني ضمن الخطة العلاجية المتكاملة للمريض؛ ويتم نقاشها مع المريض المناسب، في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة لكل مريض على حدة.
فعلى سبيل المثال، لن يتحدث جراح العظام مع المصاب للتو بكسور جسيمة في يديه وساقيه، عن أهمية ممارسة رياضة المشي!!
ولذلك، لا يمكن تصور نقاش الجوانب الدينية مع المريض أثناء إصابته بنوبة حادة ضمن اضطراب نفسي شديد الوطأة، وبالذات أثناء تنويمه في الجناح النفسي؛ وقد يكون حينها إما غير مكلف شرعا، أو مكلف جزئيا.
في المقابل، فعندما يتحسن المريض تدريجيا من نوبة الاكتئاب بفضل الله ثم بالعلاج، فإنه يستأنف عادة القيام تدريجيا بمعظم مهامه الوظيفية اليومية المعتادة قبل المرض بما في ذلك القيام بمعظم العبادات مثل الصيام، وقراءة القرآن، والأذكار...الخ؛ ولكن قد يجد بعضهم صعوبة بالغة في العودة للصلاة مطلقا، ويسوف في ذلك لشهور بل ولأعوام، بالرغم من حرصه الشديد على ذلك، ويكون ذلك مصدرا للألم والشعور بالذنب والخزي؛ ويقف أمامهم عادة عقبتان: إحداهما صعوبة قضاء ما فاتهم من صلوات لمدة قد تصل لبضعة شهور أو أعوام، والعقبة الثانية هي الرغبة بالعودة الكاملة الفورية لإقامة جميع الصلوات اليومية بكل شروطها، وأركانها، وواجباتها، بل سننها. وأثناء مراجعة المريض في العيادة لاستكمال العلاج من الاكتئاب؛ فإنه يتوقع عادة من الطبيب أو الأخصائي النفسي أن يساعده لكي يعود للصلاة ولو بشكل تدريجي بحسب قدرته؛ وربما يشير عليه باستشارة مختص آخر أو طالب علم شرعي متفهم لهذه الأمور لكي يساعده بهذا الشأن.
4) قد يجد بعض المرضى فائدة وارتياحا نفسيا خاصا به في استشعار بعض المعتقدات الإيمانية مثل الإيمان بالقضاء والقدر، وكذلك ممارسة بعض أنواع العبادات مثل الصلاة أو الصيام أو قراءة القرآن أو الصدقة أو بعض أنواع ذكر الله.. الخ؛ وكل ميسر لما خلق له؛ وهنا يأتي دور المختص النفسي في تعزيز مثل هذه الممارسات، لأنه ثابت علميا بأن الاستناد على وسائل التكيف الناضجة التي اعتادها المريض، أولى وأسهل من تدريبه على وسائل جديدة.
5)كون الطبيب/ المعالج النفسي مقصرا شخصيا في الالتزام بعض ممارساته الدينية؛ فلا يتعارض ذلك مع نقاش ذلك مع مريضه بطريقة حوارية تفاعلية، وليس بطريقة وعظية مباشرة.
وقد يقاس ذلك على أهمية نقاش أنماط الحياة الصحية مع المريض مثل ترك التدخين والالتزام بالغذاء الصحي وممارسة الرياضة؛ حتى لو لم يكن الطبيب ملتزما بذلك على أكمل وجه.
وقد يقترح المعالج النفسي على المريض بعض كتب مساعدة الذات ذات الصبغة الدينية المتوازنة، ومنها كتاب الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للشيخ السعدي مع شروحه المتوافرة بشكل مقروء ومسموع عبر الشبكة العنكبوتية.
6) يمكن استغلال هذا النقاش الديني مع المريض، في بيان أهمية التكامل في الجمع بين التدخلات البيولوجية والنفسية والاجتماعية والدينية؛
والتحذير من الذهاب للرقاة الجهلة أو الدجالين، والتأكيد على أن الرقية الشرعية هي إحدى (الوسائل الوقائية والعلاجية الفعالة لمختلف الأمراض الجسدية والنفسية) وليست هي بالطبع الوسيلة العلاجية الوحيدة؛ وحري بالمسلم بأن يرقي نفسه بنفسه، وعند الحاجة الماسة قد يطلب ذلك من شخص موثوق وبالذات من الأقارب، وقد قنن نظام الرعاية الصحية النفسية ما يتعلق بطلب المرضى أو أهاليهم لرقية المرضى المنومين في الأجنحة النفسية؛ بما يضمن سلامة المرضى، وتحقيق المطلوب.
وقد استخدم المصطفى صلى الله عليه وسلم معظم الوسائل العلاجية المتوافرة في عصره، لأنه كان يوعك كما يوعك الرجل مرتين؛
كما لم يجد نبينا صلى الله عليه وسلم غضاضة في أن يصف علاجا حسيا لمشاعر حزن طبيعية؛ كما ورد في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان ينصح باستعمال التلبينة (وهي حساء يصنع من دقيق الشعير بنخالته) لمن أصابه حزن على وفاة قريب. وكان صلى الله عليه وسلم يقول (التلبينة مجمة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن). وقياسا على ذلك، فإذا كان المنهج النبوي ينصح بعلاج حسي لمشاعر حزن طبيعية فإن استعمال الأدوية النفسية المثبتة بدراسات علمية محكمة لعلاج الأمراض النفسية هو أمر محمود بلا شك، ومما يبعث الأمل في نفوس المبتلين بأي مرض قوله (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء).
قفلة:
ينبغي إدماج الجانب الديني ضمن الخطة العلاجية المتكاملة للمرضى بشكل عام؛ ويتم نقاشها مع المريض المناسب، في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة لكل مريض على حدة.