عبدالعزيز أبانمي
في حادثة الدهس الأخيرة في ألمانيا كان للُغةِ أمضىَ حضورٍ، وأثبتت الأحداث التي أعقبتها عياناً بياناً كيف أن اللغة في ظل سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أكثر أهميةً وأشدّ تأثيراً في إيصال رسائلنا وتفعيل حضورنا.
وبفضلٍ من الله، ومن ثم بفضل امتلاك الأدوات اللغوية المناسبة، وعلى رأسها الطلاقة اللغوية لِعددٍ كبيرٍ من السعوديين على منصات التواصل الاجتماعي في اللغتين الألمانية والإنجليزية، انقلبت الموازين وصُحِّحَ الخطأ ونُشرت الحقيقةُ، وتبينّ للقاصي والداني في اصقاع الأرضِ ما للجهود السعودية في مكافحة الإرهاب والتصدي له وتنفيذ الخطوات الاستباقية التي تكفل استئصال الأفكار المعتوهة المُشوهَةِ المتطرفة من فاعليةٍ وأهميةٍ بصورةٍ أضحت معها هذه الجهود والسياسات السعودية المُكافِحةُ لأي تطرفٍ مضربَ مثلٍ على المستوى الدولي، ومقصدَ المُقتَدِين بأنجع السياسات، وعلامةً فارقةً في نُهجِ التعامل مع التطرف والإرهاب وعُتُوِ الأفكار.
وكانت اللغة في هذه الحادثة تحديداً لا وسيلةً لتصحيح الزائف من الاتهامات والتدليس تجاه المملكة العربية السعودية فحسب بل ووسيلةً لخلق التواصل الفاعل مع ثقافةٍ مختلفةٍ والنفاذ إلى نسيجها الاجتماعي ومكوناته وأفراده ومؤسساته وتقديم المملكة العربية السعودية الحقيقية؛ فكان المكسب مُضاعفاً ولم نعُد في موضع الدفاع بل كنُّا المبادرين وأصحاب الغَلَبة في هذه المعركة.
والتوظيف اللغوي في تلك الحادثة باعتباره مثالاً للأهداف التي يُسعى لتحقيقها من وراء تجويد المَلَكة اللغوية لدى طلاب التعليم العام يكشف لنا أيضا حاجتنا لمقاربة مختلفةٍ ونهج تعاملٍ مُغايرٍ في التدريس اللغوي في مدارس التعليم العام سواءً تعلق الأمر بتدريس اللغة العربية أو بتدريس اللغة الإنجليزية. والمعاناة الملحوظة التي يواجهها القائمون على التعليم الجامعي مع ضعف المَلَكة اللغوية الشائع لدى مخرجات التعليم العام ليست بسرٍّ.
ويكفينا من ذلك أن تسأل أعضاء هيئة التدريس في الكيانات الجامعية والتدريبية العليا عن معاناتهم مع تدني القدرات اللغوية فيما بين طلبتهم لتحصل على كافي الجواب. وما يبعث على القلق فعلاً هو أن الضعف لا يقتصر على اللغة الإنجليزية فحسب بل إنّ مستويات الطلاقة في اللغة العربية لا تسرُّ ولا تُبشِّر بخير. ومن هنا فإنه لأولويةٌ أن يكون أحد منطلقات واضعي سياسات التعليم اللغوي التركيزُ على المَلَكة اللغوية عموماً: العربيّة ابتداءً والإنجليزية إضافةً. إن الحديث عن المَلَكة اللغوية وأهميتها خصوصاً لصغار السن من الطلاب يطول ويتشعب، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن اتقان المهارات اللغوية له دورٌ حيوي في التطور العام للطلبة ونجاحهم الأكاديمي وقدرتهم على استكشاف العالم من حولهم، والتعرف على مختلف وجهات النظر، والتواصل الفاعل.
ولا يمكن بحالٍ من الأحوال، مع كل احترام وتقدير وامتنان للمؤسسة التعليمية المتمثلة في وزارة التعليم والفكر الذي ظلّ طوال الماضي من السنين يرسم السياسات والممارسات التعليمية، أن يستمر التعليم اللغوي على هذا النحو التقليدي النَمَطيّ إذ هو في حاجةٍ عاجلةٍ إلى تحولٍّ نوعيٍ يتوازى والتحول الذي يقوده عراب الرؤية صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز.
ومن الضروري أن يتخلى راسمو سياسات التعليم اللغوي عن القوالب التقليدية والأنماط المُتوارثة وأن يستحضروا الفِكر التحولي النوعي الذي شكّل جزئياً مسيرة رؤية المملكة 2030 وأن يستحضروا أيضاً أهمية اللغة باعتبارها وسيلة تواصل دولي ووسيط تفاعل وأداة تأثيرٍ ثقافي. ويتعين عليهم أيضاً الإيمان بأن نُهج ومقاربات ومناهج التعليم اللغوي في حاجة إلى تغيير شامل يستوعب الثورة التقنية المُمثلةِ في جزءٍ منها بثورة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على سبيل المثال لا الحصر.
اللغة في منتهى الأمر هي كائن حيٌ يتأثر بما حوله وبالتغييرات التي تطال سياقه وبالتالي فمن غير المنطقي أن نتعامل معها بأدواتنا الماضية التي عفا عليها الزمن.
وفي ظنّي أن ما يحتاجه تعليم اللغة هو فلسفة إبداعية متكاملة ومختلفة قائمة على فِكرٍ قادمٍ من خارج مباني وزراة التعليم، أو على الأقل إشراك هذا الفكر الفلسفي المختلف في عملية تصميم وتنفيذ الإطار العام للتعليم اللغوي. ويمكن الاستفادة هنا من تجارب دولية في تعليم اللغات ومنها «الإطارُ المَرْجِعِيُّ الأُورُبِّيُّ المُشْتَرَكُ لِلُّغاتِ» والذي قدّم مشروع «التعليم متعدد اللغات» الذي طورته وحدة السياسة اللغوية التابعة للمجلس الأوربي منذ أواخر التسعينيات كأساس للتعليم المتسم بتنوعه التنوع الثقافي واللغوي في المجتمعات الأوربي عبر تحديد الاحتياجات اللغوية لمختلف طلاب الدول المنضوية تحت الإتحاد الأوربي.
ولا شك عندي في أن الفكر الذي أتحدث عنه هنا هو فِكرٌ لا ينظر إلى اللغة باعتبارها مادةً دراسيةً يتعين تعلُّمُها فحسب بل وباعتبارها أيضاً أداةً يوظِّفُها الطلاب في التفاعل مع محيطهم والتواصل معه والتعبير عما يجول في خواطرهم. ويتعين أن تكون الفلسفة قائمة ابتداءً على توفير فرص الثنائية أو الازدواجية اللغوية لمختلف طلاب التعليم العام بما يضمن رفع مستوى كفاءتهم وطلاقتهم اللغوية في العربيّة والإنجليزية بشكل تكاملي. فعند الحديث عن تعليم اللغة العربية، لا يمكن القبول بأي حال من الأحوال بهذا المستوى من ضعف العربيّة بين الطلبة في ظل المعطيات الحالية والدعم المُقدَّم لتدريس هذه اللغة. ولا تعكس المقاربات المستعملة حجم الخبرات المتوافرة والكيانات المُكرسة للغة العربية تعليماً وبحثاً وممارسة.
أما تعليم اللغة الإنجليزية فقد آن أوان الخروج من نهج تدريسها باعتبارها مادة منفصلة والتفكير في جعلها لغة تدريس بعض المواد كالعلوم والرياضيات والجغرافيا والتاريخ. إن زيادة فرص تعرض الطلاب لهذه اللغة داخل المدرسة هي مكون أساس في تعليم الإنجليزية المُفترض. ولمن يجادل بأن تكريس مبدأ «الثنائية أو االازدواجية اللغوية» له تأثيره السلبي على اللغة العربية وتعلمها، فقد دحضت الاكتشافات العلمية الحديثة الاعتقاد بأن الأطفال يتشتتون بسبب المدخلات اللغوية المزدوجة بل إن نتائج عديدٍ من الدراسات تثبت ما للثنائية اللغوية من أثرٍ إيجابي في وظائف الدماغ التي تسمح للبشر بأداء مهام معقدة مثل حل المشكلات، وتخطيط تسلسل الأنشطة، وتوجيه الانتباه لتحقيق هدف ما، أو مراقبة الأداء.
إن تحولاً تاريخياً كالذي نعيشه بفضل من الله هذه الأيام يستدعي تفاعلاً قادراً على تلبية التطلعات المستقبلية المشرقة التي يرسمها لنا قادة هذا البلد العظيم. ويبرز التعليم باعتباره في مقدمة من يُفترض تحقيقهم لتلك التطلعات، ولا يساورني الشك في أن مسيرّي هذا التحول ومخططّيه وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله على علمٍ ودرايةٍ بما يمثله التعليم من ركيزةٍ أساس في سبيل استمراية ريادية هذا الوطن وتطوره.