هديل الحارثي
في كل تفاعل يومي، نمر بتجارب تجعلنا نواجه أشخاصاً يختلفون عنا في الأفكار والقيم والتجارب. غالباً ما نقوم – عن وعي أو غير وعي – بقياس هؤلاء الأشخاص بناءً على معاييرنا الشخصية وتجاربنا الذاتية. هذا النمط من التفكير يثير تساؤلاً مهماً: هل من العدل أن نحكم على الآخرين بدوائرنا الخاصة؟ وما أثر ذلك على المجتمع؟
وكل فرد منا ينظر إلى العالم من خلال عدسة خبراته وقيمه الشخصية. هذه العدسة تتشكل نتيجة عوامل عديدة، أبرزها:
1 - النشأة الاجتماعية والثقافية: القيم التي تعلمناها في المنزل والمجتمع تصبح مقياساً نستخدمه للحكم على العالم من حولنا.
2 - التجارب الشخصية: ما نمر به من نجاحات وإخفاقات ينعكس على تصوراتنا للآخرين وطريقة تقييمنا لهم.
3 - البيئة المحيطة: سواء كنا نعيش في مدينة حديثة أو مجتمع تقليدي، يؤثر ذلك على رؤيتنا للآخرين.
لكن هذه العدسة، مهما كانت واسعة، تظل محدودة. فهي لا تأخذ في الاعتبار تنوع تجارب الآخرين وخلفياتهم، مما يجعلنا نصدر أحكاماً قد تكون غير دقيقة أو ظالمة.
وهناك أسباب متعددة تدفعنا للقياس بدوائرنا الخاصة، منها:
1 - البحث عن الانسجام: نميل بطبيعتنا إلى تفضيل الأشخاص الذين يشبهوننا في التفكير والقيم، مما يجعلنا نتردد في تقبل من يختلف عنا.
2 - الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة: الكثير منا يعتقد أن طريقته في التفكير أو العيش هي «الصحيحة»، ويرى في اختلاف الآخرين تهديداً أو تقصيراً.
3 - غياب القدرة على التعاطف: أحياناً، نفتقر إلى الجهد المطلوب لفهم الآخرين وسياقاتهم المختلفة، فنلجأ إلى إطلاق الأحكام السريعة.
على أن قياس الآخرين بدوائرنا الخاصة قد يؤدي إلى نتائج سلبية، منها:
* تعزيز الانقسامات الاجتماعية: عندما نرفض تقبل اختلاف الآخرين، نصبح أكثر عزلة وأقل قدرة على التفاعل مع المجتمع بتنوعه.
* إضعاف العلاقات الإنسانية: يؤدي الحكم غير العادل إلى توتر العلاقات الشخصية، سواء في العمل أو الأسرة أو المجتمع.
* تثبيط النمو الشخصي: عندما نغلق أذهاننا أمام أفكار وتجارب مختلفة، نفقد فرصة التعلم والتطور.
ولتجنب الوقوع في فخ القياس بدوائرنا الخاصة، يمكننا اتخاذ خطوات تعزز التفاهم والانفتاح:
1 - التعاطف وفهم السياق: بدلاً من الحكم على الآخرين بسرعة، حاول أن تفهم دوافعهم وخلفياتهم. ما قد يبدو غريباً بالنسبة لك قد يكون مبرراً تماماً من منظورهم.
2 - احترام التنوع: تقبل أن العالم مليء بالتنوع، وأن اختلاف الآخرين لا يقلل من قيمتهم.
3 - الوعي بالذات: الاعتراف بأن رؤيتنا للعالم ليست مطلقة، بل متأثرة بحدود تجربتنا، يساعدنا على تجنب إصدار الأحكام.
4 - التواصل البنّاء: بدلاً من الافتراضات، يمكننا فتح قنوات حوار صادقة مع الآخرين لفهم وجهات نظرهم بشكل أعمق.
وفي ثقافتنا الإسلامية والعربية، نجد دعوة واضحة لاحترام التنوع والتعامل مع الناس بالحسنى. قال الله تعالى: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (الحجرات 13). هذه الآية تذكرنا بأن التنوع البشري ليس سبباً للفرقة، بل فرصة للتعارف والتكامل.
على أن قياس الآخرين بدوائرنا الخاصة قد يكون تصرفاً طبيعياً، لكنه ليس الخيار الأمثل. العالم مليء بالتنوع، وكل فرد يحمل قصته التي تضيف قيمة إلى المجتمع. إذا استطعنا أن نتجاوز محدودية منظورنا الشخصي، فسنكتشف عالماً أكثر غنىً وتفهماً.
في النهاية، الاختلاف ليس عائقاً، بل ثروة. ومن خلال احترام دوائر الآخرين، يمكننا بناء مجتمع أكثر تسامحاً وتماسكاً، حيث تكون العلاقات قائمة على التفهم والتقدير المتبادل، وليس الأحكام الضيقة.