د. عيد بن مسعود الجهني
المتتبع للسياسة الإسرائيلية تجاه القدس منذ احتلاله عام 1967م ومحاولة حرقه عام 1969م يتضح له أن الدولة العبرية اعتبرت المدينة المقدسة عاصمة أبدية لها، وجاء وعد بلفور جديد لعين بمنحها ذلك الحق المستند على قانون الغاب، ليدعم سيطرة اليهود على نسبة تصل إلى أكثر من 86 في المئة من مساحة القدس الشرقية، والتخلص من السكان الفلسطينيين أصحاب الحق الأصليين.
إن ما صدر من قرارات عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن كلها تدعم الموقف العربي والإسلامي بشأن احتلال القدس وتهويده واعتباره عاصمة لإسرائيل، وإعلان ترمب قراره منح القدس عاصمة لليهود يعد جريمة قانونية دولية جسيمة، وتعتبر كل إجراءات الدولة العبرية والوعد البلفوري الشيطاني الجديد باطلة بطلانا مطلقا.
ورغم كل هذه المآسي فشعب فلسطين لا تزيده المحن إلا قوة، ولا تزيده الحوادث إلا مضاء، ولا يزيده الظلم إلا إصراراً على الكفاح النبيل، كالذهب تزيده النيران تألقاً ونقاء وتطرد عنه الشوائب والخبث.
وجاء دور لبنان فالمشروع الإسرائيلي طموحاته عديدة يريد السيطرة على جنوبه بعد مزارع شبعا، لذا شنت حربا ضروسا على لبنان من جنوبه إلى كل أركانه، على مدى أكثر من سنة قررت أمريكا الإيعاز لنتنياهو وقف الحرب لمدة ستين يوما بعد أن دمر الجنوب والعديد من الضواحي اللبنانية.
وأمريكا التي تعلن أنها تملك في حوزتها خطة للسلام ووقف الاعتداء على لبنان وفعلت بعد التدمير الهائل والأنفس الكثيرة التي هلكت، لم تذكر حتى اسم غزة في خطتها لوقف الاقتتال في لبنان، فهي تساوي بين الضحية والجلاد تؤكد فعلا المثل الذي يقول (اللي اختشوا ماتوا) صرحت بلا حياء أنها تؤيد الاعتداء الإسرائيلي على فلسطين مرارا وتكرارا.
ولتأكيد قانونية طلب السيد خان نجد هذا في قانون المحكمة ففي ديباجة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي سرى مفعوله اعتبارا من أول يونيو 2001 تنص على أن (هذه الجرائم الخطيرة تهدد السلم والأمن والرفاه في العالم، وتثير حنق المجتمع الدولي بأسره فيجب ألا تمر دون عقاب).
وإذا أمعنا النظر في بعض نصوص مواد قانون المحكمة الجنائية الدولية ومنها المادة الخامسة التي حددت الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وكذلك المادة السادسة، السابعة، والثامنة التي شرحت تفصيلا المفهوم القانوني لجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وكذلك جرائم الحرب وغيرها من الجرائم.
وإذا استعرضنا تلك المواد التي حددت الجرائم المعاقب عليها نجد أن جميع الجرائم التي ورد النص عليها، بل أكثر منها قد ارتكبها قادة اليهود وجنودهم ضد الفلسطينيين العزل بلا وازع من خلق ولا رادع من ضمير!!
وتأتي المادة 58 من قانون المحكمة لتمنح الدائرة التمهيدية بناء على طلب المدعي العام إصدار أمر بالقبض على الشخص إذا وجدت أسباب معقولة للاعتقاد بأنه قد ارتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة وان القبض عليه ضروري لضمان حضوره أمام المحكمة.
السؤال المهم هل مذكرة الاعتقال تلك التي صدرت عن محكمة الجنايات الدولية ملزمة للدول 124 أعضاء المحكمة؟
والإجابة القانونية طبقا لنصوص مواد قانون المحكمة الذي وقعت عليه الدول الأعضاء وقبلت به، فإن تلك المذكرات الخاصة باعتقال نتنياهو وزميله وزير الدفاع السابق غالانت، فيقع على عاتق الدول الأعضاء وحتى وإن كانت بعضها لها علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية، يجب عليها تنفيذ مذكرات الاعتقال وفي مقدمتها أمريكا.
وإذا كانت بعض الدول ومنها دول أوروبية قد أعلنت التزامها والقبض عليهما إذا ما دخلا أراضيها فإن هذا هو الالتزام القانوني بقانون المحكمة والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف الأربع.
وفي ظل هذه المذكرات باعتقال نتنياهو وزميله، والتي في رأينا أنها على الأقل جعلت الرجلين المجرمين يعرفان معنى الحرية والتي تعني التحرر من بعض القيود التي توقف حركة الإنسان المادية والمعنوية، والضغوط التي تفرض على البشر والتي فرضها نتنياهو على الفلسطينيين وأضاف لها جرائم رهيبة على مدى أكثر من نصف قرن.
وعلى الجانب الآخر فإننا لا نرى نورا يبين لنا أن نتنياهو وزميله قد يقبض عليهما يوما فالدول الكبرى وأمهم أمريكا تقدم لهما الحماية أمام معظم دول المنظومة الدولية والأمم المتحدة ومجلس أمنها كل ذلك ضد القانون الدولي والإنساني، واتفاقيات جنيف الأربع.
وإذا كانت الدول الأوروبية ومعها أمريكا قد بذلت جهودا لجلب قادة يوغسلافيا السابقة ومن ارتكب جرائم حرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك ليمثلوا أمام العدالة لينالوا عقابهم فإنه حري بهم اليوم أن يقفوا مع العدل ضد الظلم ومع الحق ضد الباطل لترفع المحكمة الجنائية رأسها بتحقيق وجودها.
ولا شك أن الهدف الأول والأخير للدولة العبرية هو احتلال البقية المتبقية من أرض فلسطين 15 في المئة بعد أن ابتلعت 85 في المئة من إجمالي مساحة فلسطين (27) ألف كيلو متر مربع، وجميع المستوطنات التي أقامتها هي على أرض فلسطين.
ومما يؤكد ذلك أن بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 87 تمحورت كلمته ودوره في تغيير الشرق الأوسط.
الخريطة السوداء التي عرضها لم يذكر أي وجود لدولة فلسطينية حيث طغى اللون الأزرق الذي يحمل كلمة إسرائيل على خريطة الضفة المحتلة كاملة بما فيها قطاع غزة.
وهذا يؤكد توجه المجرم وزير المالية الإسرائيلية بتسلئيل تريش مما عارض خريطة إسرائيل في باريس والتي كانت تضم الأراضي الفلسطينية واستطرد قائلا: لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني واختراع وهمي لم يتجاوز عمره المئة سنة.
وعلى الفور أعلنت وزارة الخارجية السعودية في بيان لها: (أعربت فيه عن تحذير المملكة العربية السعودية الشديد من خطورة التصريحات المتطرفة لمسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية المحتلة، وبناء المستوطنات وتوسيعها)، مؤكدةً أن هذه (التصريحات تقوّض جهود السلام بما فيها حل الدولتين، وتشجع الحروب وتنتج مزيداً من التطرف، وتضاعف التهديد لأمن المنطقة واستقرارها).
وتابعت في بيانها أن (المملكة تعد هذه التصريحات انتهاكاً سافراً للقوانين الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة، وتكرس الاحتلال والتوسع في الاستيلاء على الأراضي بالقوة مما يشكل سابقة خطيرة، مؤكدةً على أن تبعات استمرار الفشل الدولي تتعدى حدود هذه الأزمة لتطول شرعية ومصداقية قواعد النظام الدولي، وتهدد استمراريته).
ومن جانبها دولة الإمارات ودولة قطر عبرتا عن رفضهما القاطع لجميع التصريحات الاستفزازية والإجراءات التي تستهدف تغيير الوضع القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، واعتبرا ذلك أنه تصعيد خطير من شأنه إعاقة فرص السلام في المنطقة.
وهي إسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون الدولي والأمم المتحدة وميثاقها ومجلس أمنها لأنها تعتبر نفسها امتدادا لماما أمريكي، ولذا تضرب الإدارة الأمريكية أي قرار لمجلس الأمن يدين إسرائيل في عصا من نار لتقتله.
وإذا كان السيد ترامب سبق في ولايته الأولى أن أهدى إسرائيل قدسنا الشريف وجميع المستوطنات والحق بها الجولان السورية فالقادم أسوأ.
والعرب ومنظماتهم المدنية وغير المدنية وهم يملكون بين أيديهم وثائق ومستندات قانونية دامغة في إثبات جرائم قادة إسرائيل والتي لا تسقط بالتقادم، عليهم انتهاز هذه الفرصة القانونية كسابقة حكم جنائي تاريخي، وطرق كل الأبواب ومنها المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية التي تحتضن قضية أخرى أكبر بمبادرة من حكومة جنوب إفريقيا ضد نتنياهو وإسرائيل، وكذلك هيئات حقوق الإنسان في العالم والتي من بينها مجلس حقوق الإنسان في جنيف الذي أدان بشدة إسرائيل لانتهاكها لحقوق الإنسان وكون لجنة لتقصي جرائم الحرب الإسرائيلية التي ارتكبت في غزة.
باختصار شديد لابد علينا كعرب أن ندرك أن الدولة العبرية تبني قوة عسكرية بدعم صارخ أمريكي لتستمر الأقوى في الميدان العسكري، فالترسانة العسكرية الإسرائيلية جزء من تلك الأمريكية.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة