د. عبدالحق عزوزي
هناك مشكل كبير في فهم الآخر خاصة في المجتمعات الغربية؛ ومن هنا تلك الحملات المسعورة التي يشعلها السياسيون وأصحاب القلم وفئات عريضة من المجتمع في حق المهاجرين، وبالأخص المسلمون منهم؛ ومما يزيد الطين بلة أن هاته الحملات لا تسلم منها حتى بعض التوجهات الأكاديمية التي تدرس في الجامعات الغربية؛ وما زلت أتذكر لما كنت طالبا في الجامعة الفرنسية، كيف كنا نحن الطلبة نتلقى محاضرات من بعض المنظرين في العلاقات الدولية في ظاهرها قواعد عن سوسيولوجيا العلاقات الدولية وفي باطنها كره وجهل بالحضارة الإسلامية.. وكان هناك تباين جلي في التلقي والتجاوب، فكنا نحن الطلبة المسلمين نحتكم بصورة حقيقية ومرضية إلى واقع الحضارة العربية والإسلامية أثناء تلقينا لهاته العلوم، أما الطلبة الفرنسيون والأجانب (ما عدا الأفارقة والأسيويين منهم) فقد احتكموا إليها بما في ذلك نظرية هانتغتون عن صراع الحضارات كما هي بل وغذوها أيضا انطلاقا من نظريات مشابهة لها وبقوا في هذا الحد من الفهم دون الغوص في خبايا التاريخ وعلم الاجتماع والحضارة لبناء نقد ذاتي لنظرية رغم بساطتها لها من النتائج على الفكر والنظرة إلى الآخر ما ليس لغيرها؛ وإذا دخلت في حديث فكري معهم وجدت نظرتهم إلى الحضارة العربية والإسلامية نظرة محقرة، وإذا بحثت معهم فوق الحشائش وتحت الحشائش فلن تجد علما ولو بسيطا بتاريخ وواقع الحضارة العربية والإسلامية، بل مجملها سطحيات تفند بواقع العلم والحقيقة، والأدهى أن نظراتهم تتغذى بإسقاطات على وقائع ليس لها لا مرجع ولا أصل منصف.. وما زلت أتذكر أنني يوما سألت أستاذا من أصول ألمانية توماس ليندمان وهو من كبار منظري العلاقات الدولية في الجامعات الأوربية عن جدوى إدراج نظرية هانتنغتون في مادة السلك الثالث وفي هذا المستوى من التعليم لأن هانتغتون لا يمكن عده من منظري العلاقات الدولية ولا نظريته تصلح لأن توضع كند مع نظيراتها في العلاقات الدولية، فكان من إنصاف هذا الأستاذ أن ساندني الرأي ولكن دون الخوض معي ومع زملائي عن ماهية إدراجها ضمن المقرر. نعم إنه الجهل العميق بالواقع، والتراكمات المغلوطة التي تخلق صورا مشوهة حول الآخر، والعينة التي أخذتها هي عينة الطلبة ذوي كفاءة كبيرة في الحكم والنقد وعلى مستوى كبير من العلم وذوي الاختصاص في المجال، فما بالك بالرجل الغربي العادي الذي لا يتغذى فكره إلا بوسائل الإعلام.. وأنا أشاطر هنالعديد من المنصفين عندما يؤكدون بأن الغرب قلما يتذكر، بصفة عامة، الدور الأساسي الذي لعبته الحضارة الإسلامية، والتي كان يتواجد أحد مراكزها بإسبانيا، التي كانت فيها أوروبا نفسها تهيم في عمق التخلف، ونحن نشك في أن الناس، في شوارع نيويورك أو لوس أنجولس أو لندن أو باريس، يعرفون اليوم مدى تقدم الحضارة الإسلامية في ذلك العصر. لقد قدمت هذه الحضارة للعالم، معارف جديدة في مجال العلم والفلسفة والأدب والقانون والطب وغريها من المجالات (..) ويراودنا الشك كذلك، في كون الناس يتذكرون أن التسامح قد كان من المميزات السائدة في هذه الحضارة، ذلك أن فترة أوج الحضارة الإسلامية هي الفترة التي عاش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون جنبا إلى جنب في سلام، بإسبانيا وببلدان أخرى من العالم الإسلامي.
وأنا لست هنا في وارد إلقاء اللوم على الغرب وحده لجهله الكبير بالآخر المسلم، فالعكس في بعض الأحيان صحيح، ولكن العالم الإسلامي محاط اليوم بشتى أنواع الإكراهات في علاقته بالغرب؛ والإسلام الذي هو أصل عقيدته وقوام هويته متهم في الأذهان الغربية بكونه دين الغلو والتطرف والإقصاء، بل وحتى الثقافة العربية-الإسلامية متهمة على كونها تميل إلى التقليد المحبط وتغذي خصوصياتها الحضارة العربية والإسلامية، وهي المرجع الرئيسي حسب زعمهم لحركات الإرهاب في العالم. وعلى الإنسان المنصف الذي يريد أن يحكم على الواقع أن يتجرد من هذه الأحكام المغلوطة ويرجع إلى الأصل المستنير للحضارة العربية والإسلامية والدين الإسلامي.
وهاته الحقائق هي تنفيذ لنظريات الحقد التي طغت في أزمنة متعددة، وعلى رأسها نظرية هانتنغتون هذا الإيديولوجي الذي يريد أن يعطي للحضارات والهويات طبائع ليست فيها.. فهي ليست كيانات مغلقة، مفرغة من كل تلاقح وتمازج مع نظيرتها التي تحرك المسيرة الإنسانية منذ قرون والتي سمحت ليس فقط باحتواء الحروب الدينية والتوسع الإمبريالي، بل جعلت التاريخ تاريخا للتبادل والتفاهم والالتقاء الثري.