هديل الحارثي
في عالم يتسارع فيه كل شيء، من الأخبار إلى التفاعل، بات الجدل جزءاً يومياً من حياتنا، يتغلغل في أدق التفاصيل، ويشعل النقاشات حول كل شيء وأي شيء. من صورة عابرة إلى تغريدة لا تتجاوز 280 حرفاً، نجد أنفسنا في خضم موجة من النقاش الحاد والمواقف المتباينة. لكن يبقى السؤال: ما الهدف من هذا الجدل؟ وهل له مغزى حقيقي أم أنه مجرد وسيلة للترفيه والتسلية؟
لماذا نحب الجدل؟
يمكن القول إننا مبرمجون على الانجذاب للجدل. الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يحب التعبير عن رأيه والتفاعل مع الآخرين. ومع وجود المنصات الرقمية التي جعلت العالم أشبه بقرية صغيرة، أصبح الجدل أكثر شيوعاً وسرعة انتشار.
لكن: هل يكمن وراء هذا الحب للجدل أسباب أعمق؟ ربما. دعونا نستعرض بعض الأسباب:
1 - الرغبة في التفاعل والظهور:
الجدل يتيح للجميع فرصة التعبير عن آرائهم، حتى لو لم تكن لديهم خبرة أو معرفة عميقة بالموضوع. إنها فرصة للقول «أنا هنا، وأريد أن أُسمع».
2 - الترفيه والهروب من ضغوط الحياة:
في ظل التحديات اليومية، يبدو الجدل كمتنفس سهل وغير مكلف. يمكن للناس أن ينخرطوا في نقاشات حامية حول مواضيع قد تكون في الحقيقة غير مؤثرة على حياتهم.
3 - التأثير النفسي للمشاركة:
هناك شعور بالانتماء عندما يشارك الشخص في جدل شائع، سواء كان مؤيداً أو معارضاً. إنه يعزز فكرة «نحن ضدهم»، مما يخلق انقساماً يضفي المزيد من الإثارة على الموقف.
الجدل: بين الإثراء والإهدار
لا يمكن إنكار أن الجدل يمكن أن يكون ظاهرة صحية إذا وُجِّه نحو نقاشات بنّاءة تضيف قيمة للمجتمع. على سبيل المثال، هناك قضايا اجتماعية واقتصادية تثير الجدل، لكنها تدفع بالنقاش العام إلى إيجاد حلول أو تسليط الضوء على مشكلات تحتاج إلى معالجة.
لكن في المقابل، هناك نوع آخر من الجدل لا يتجاوز كونه ترفيهاً عابراً أو حتى عبثا يُهدر الوقت والجهد. خذ على سبيل المثال النقاشات المطولة حول قضايا تافهة مثل لون فستان أو طريقة تناول الطعام. هذه النقاشات قد تكون ممتعة، لكنها لا تضيف شيئاً يُذكر للحوار المجتمعي.
الجدل كوسيلة للإثارة
في بعض الأحيان، لا يكون الجدل عفوياً. كثير من الجهات، سواء كانت شركات أو أفراداً، تستغل إثارة الجدل كوسيلة للترويج أو كسب الانتباه. في عصر يعتمد على أرقام المشاهدات والتفاعل، يُعتبر الجدل أداة تسويقية فعالة، حتى لو كان ذلك على حساب الدقة أو الأخلاقيات.
كيف نتعامل مع الجدل؟
لأن الجدل أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقعنا الرقمي، علينا أن نتعامل معه بوعي ومسؤولية. هنا بعض النصائح:
* اختر معاركك بحكمة: ليس كل موضوع يستحق التعليق أو المشاركة. بعض النقاشات يمكن تجاوزها دون خسارة شيء.
* احترم الرأي الآخر: الجدل لا يعني فرض رأيك أو مهاجمة الآخرين. النقاش الحضاري هو ما يثري الأفكار.
* ركز على القضايا المهمة: عوضا عن الانشغال بتفاصيل تافهة، استثمر وقتك في نقاشات تُحدث فرقاً حقيقياً.
خلاصة: الجدل بين الضرورة والترف
الجدل، كغيره من الظواهر الاجتماعية، يمكن أن يكون مفيداً أو مضراً بحسب الطريقة التي نتعامل بها معه، إذا استطعنا أن نجعل منه وسيلة للنقاش البنّاء وتبادل الأفكار، فإنه يصبح أداة قوية للتغيير. أما إذا استسلمنا لنقاشات عابرة لا تسمن ولا تغني، فإنه يصبح مجرد ضجيج في خلفية حياتنا اليومية.
في نهاية الأمر، علينا أن نتذكر أن الوقت أثمن من أن يُهدر في نقاشات لا طائل منها، وأن الجدل الحقيقي هو ذلك الذي يدفعنا للأمام، لا الذي يبقينا في دائرة مغلقة.