د. سليمان بن ضيف الله اليوسف
عانيت هذا الموضوع علمياً وكتبت فيه أحرفاً وسبرت بعض خباياه عبر بحثين محكمين تم نشرهما ولله الحمد، أحدهما عالجت فيه مفهوم الفساد الوظيفي وحكمه، والآخر سلطت فيه الضوء على كيفية مكافحة الفساد الوظيفي في الشريعة الإسلامية، وبسبب هذين البحثين اطلعت على عدد كثير من البحوث والكتب ذات العلاقة.
ولكوني إنساناً من الناس فإنني أرى وأسمع وما يدريك عما سمعت بل عما رأيت. والإنسان البسيط ليس أمامه حجب تمنع عنه الرؤية ولا هو ممن يرى عبر نظارات غيره.
لذلك قد يكون لدي شيء لعل فيه فائدة لو حول من النظر إلى العمل، أودعت هذا الشيء في ثنايا البحثين، وركزت على الجانب العملي في نتائج البحثين خصوصاً نتائج بحث مكافحة الفساد الوظيفي وهو منشور في مجلة قضاء ومتاح على الإنترنت.
ومما أرتكز عليه في متاركة الفساد الوظيفي ومكافحته أن نحاول جهدنا أن نكون واقعاً حياً نظيفاً يعارض ويناقض الواقع الدنس الحي بما يميت ويجدب، وأظن أنه يمكن أن نصل إلى ذلك من خلال الآتي:
أولاً: ربط ترك الفساد الوظيفي ومكافحته بكل الدوافع الصالحة بدءاً من الدين ومخافة الله، ثم الحرص على القيم والخوف على الوطن والمحافظة على السمعة والتأريخ الشخصي وغير ذلك من معززات ترك الفساد بل مكافحته.
ثانياً: تفعيل دور المجتمع تفعيلاً واقعياً حيوياً ذا مساحات واسعة من الحرية المنضبطة عبر مظلة اجتماعية رسمية ذات صلاحيات واعتبارات محترمة لدى الدولة والمجتمع سواء سميت (نادي نزاهة) أو غير ذلك.
ثالثاً: تفعيل جانب الشفافية وتقريب الشفافية من المواطنين ورفع التوقر الوظيفي المصطنع في علاقة المواطن بالمسئول فيما يتعلق بالوظائف التي له حق فيها، أو فيما يتعلق بجوانب المصلحة العامة التي هي حق لكل مواطن ومن حقه ومسئوليته حمايتها مشاركة مع ولي الأمر.
ومن الشفافية الواجبة أن يعلم المواطن بالوظائف وشروطها ونتائجها وأسباب النجاح والرسوب إذا رغب في ذلك، ومن الشفافية المهمة توضيح كل الجوانب المهمة فيما يمس التوظيف لمن هو معني بالأمر، نحتاج نظاماً شفافاً وواضحاً يعرف الطالب الجامعي مثلاً: كيف سيقبل معيداً..؟!! وكيف سيترقى الموظف..؟
رابعاً: يجب أن تتوافر الجهود وتتعاضد ليصل المجتمع إلى أن تكون الكفاءة الوظيفية مقدمة على العلاقات أو الواسطات كما يقال، أو على الأقل نصل إلى أن الكفاءات يكون تقديمها هو السائد وهو الأساس.
إن من الجرائم الكبرى في حق الدين والوطن حرمان الناس والبلد من كثير من الكفاءات؛ بسبب شيوع التقديم بالعلاقات حتى غلب هاجس الواسطة على هاجس الكفاءة في كثير من المجالات.
متى نصل إلى تجريم مقنن ومنظم لتلك الواسطات التي قدم كثير منها المؤخر وأخروا المقدم!
ومتى نصل إلى تنظيم دقيق كاشف لتلك الواسطات المتلاعبة.
أدعو كما دعا غيري إلى تقليص ما يسمى (السلطة التقديرية) للمدراء ونحوهم وضبط هذه السلطة بمعايير تجري عليها المكاشفة والمحاسبة.
كما أقترح تصوير المقابلات الوظيفية تلفزيونياً وحفظها للرجوع إليها عند الحاجة خصوصاً فيما تكثر الشكاية فيه من الواسطة.
خامساً: التعاون مع ولي الأمر والتعاون مع أجهزته الرسمية في ترك الفساد ومكافحته، وتقريب هذا التعاون وتمهيد سبله بتيسير الوصول لتلك الأجهزة الرسمية وتقربها لروح المواطن وتحسيسها له بأنه رجل المكافحة الأول والعناية الجادة ببلاغات المواطنين وتصنيفها حسب أهميتها وإشعار المواطن بأهمية بلاغه عند الدولة.
سادساً: تفعيل الواجب الشرعي والوطني في حماية المواطن المبلِّغ، وقد اقترحت في سبيل تحقيق ذلك أن تمنع إحالة المواطن المبلغ عن الفساد إلى النيابة إلا عن طريق الجهة المخولة بمكافحة الفساد كــ (نزاهة) في دولتنا - حفظها الله -؛ وذلك ليتم التأكد من قبلها من عدم تعاضد الموظفين الفاسدين على المبلغ وقلب البلاغ عليه، كما اقترحت في الجانب القضائي عدم الاقتصار على رأي الجهات المبلغ عنها في حقيقة البلاغ، والنظر في واقع الفساد لدى الجهات المبلغ عنها، واعتبار بلاغ المواطن مساوياً لخطاب المبلغ عنهم من جهة الشرعية لا من جهة الرسمية؛ لئلا تكون الرسمية حصناً يتحصن به المسئول الفاسد، وهذا خلاف قصد الشريعة وقصد ولي الأمر وفقه الله.
سابعاً: تفعيل الجانب الوقائي والاهتمام به في المناهج التعليمية والخطب والمنتديات والنوادي وبيان مضار الفساد الوظيفي على الدين والخلق والقيم بما ينشره من فساد وعنصرية ورشوة وتحطيم وحرمان للبلد من الكفاءات وإخلال بالمصالح والمرافق وجميع نواحي العمران وتحويل الوطن إلى مسبعة يغلب القوي فيها الضعيف.
فيبيِّن للناشئة وعموم الناس أن الفساد الوظيفي جريمة مكتملة الأركان، كما يبيِّن للناس أن المسئولية في مكافحته مشتركة بين الدولة والمجتمع والمواطن ويحارب اليأس من الإصلاح.
نسأل الله أن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يجنِّب بلادنا الفساد وأن يعمرها بالصلاح والإصلاح وسائر بلاد المسلمين.