د. محمد بن أحمد غروي
اللغة هي أكثر من مجرد وسيلة للتواصل، فهي تجسد هوية الشعوب وعمق ثقافتها، وتشكل أداة أساسية لبناء الجسور بين الثقافات المختلفة. ولطالما لعبت المنظمات الدولية والمؤسسات الثقافية دوراً محورياً في دعم وتعزيز مكانة اللغات المختلفة حول العالم، سواء من خلال نشرها أو تعليمها أو تعزيز استخدامها في الأوساط غير الناطقة بها. ومن هذا المنطلق، تأتي اللغة العربية كإحدى اللغات العالمية ذات الثقل التاريخي والديني والثقافي، التي تستحق أن تكون حاضرة بقوة على خارطة الجهود الدولية. في هذا السياق، تظهر العديد من الجهود المبذولة لتعزيز تعليم اللغة العربية في دول جنوب شرق آسيا، وخصوصاً ماليزيا، حيث تعتبر اللغة العربية أكثر من مجرد لغة أجنبية؛ بل هي جزء من الهوية الدينية والقومية، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإسلام باعتبارها لغة القرآن الكريم. ورغم هذا الاهتمام، فإن الجهود القائمة لا تزال تواجه العديد من التحديات التي تحد من قدرتها على تحقيق الأثر المنشود.
شهدت السنوات الأخيرة نمواً ملحوظاً في المبادرات التي تستهدف تعزيز اللغة العربية في ماليزيا ودول آسيان. ومن الأمثلة البارزة على هذه الجهود، تنظيم رابطة العالم الإسلامي فعالية ثقافية في ماليزيا، بالتزامن مع اليوم العالمي للغة العربية لعام 2024، حضرها عدد من الأكاديميين والإعلاميين وممثلي الجمعيات غير الربحية، وقد ألقى الملحق الثقافي السعودي في ماليزيا، الدكتور محمد السهلي، كلمة استعرض فيها جهود وزارة التعليم السعودية في دعم اللغة العربية عبر ملحقياتها الثقافية، مؤكداً أهمية تعزيز الشراكات مع الجانب الماليزي لتلبية شغف المجتمع المحلي بتعلم اللغة العربية. هذه الجهود تؤكد أهمية التعاون الدولي في نشر اللغة العربية وتعزيز حضورها على الساحة العالمية.
رغم الجهود الكبيرة المبذولة، هناك تحديات جوهرية لا تزال تواجه عملية تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. يأتي على رأس هذه التحديات غياب بيئة تعليم تواصلية تتيح للمتعلمين استخدام اللغة بشكل يومي، حيث أثبتت الدراسات، وأكد الحاضرون في فعالية رابطة العالم الإسلامي، أن التفاعل المباشر مع الناطقين باللغة هو العامل الأهم في تعزيز مهارات التحدث والاستيعاب. وبما أن السفر إلى الدول العربية ليس متاحاً للجميع، فإن هذا الغياب يمثل عائقاً كبيراً أمام المتعلمين.
التحدي الآخر يكمن أيضًا في نقص الموارد التعليمية المناسبة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. إذ إن معظم المناهج التعليمية الحالية لا تراعي خصوصية الثقافات المحلية ولا تركز على الحاجات الفعلية للمتعلمين، وعلى سبيل المثال، يفتقر الكثير من المتعلمين في ماليزيا إلى المناهج المصممة خصيصاً لتعليم اللغة لأغراض مهنية أو أكاديمية، ما يحد من قدرتهم على الاستفادة من اللغة في مجالاتهم العملية. كذلك، تعاني المؤسسات التعليمية من قلة الوسائل السمعية والبصرية التي تسهم في تبسيط عملية التعلم وتجعلها أكثر جاذبية وتفاعلية.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات تفتح المجال لاستكشاف فرص واعدة لتحسين تعليم اللغة العربية في ماليزيا ودول آسيان. فالتطور التكنولوجي يمكن أن يكون حلاً فعالاً لخلق بيئات تعليم افتراضية تتيح للمتعلمين التفاعل مع اللغة بشكل يومي. كما يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تلعب دوراً محورياً في تطوير تطبيقات ومنصات تعليمية تقدم تجربة تعلم مخصصة وفقاً لاحتياجات كل متعلم. إلى جانب ذلك، فإن تعزيز التعاون بين الدول العربية ودول آسيان يمكن أن يسهم في دعم برامج تبادل ثقافي وأكاديمي تتيح للمتعلمين فرصاً أوسع لاكتساب اللغة.
إلى جانب الحلول التقنية، هناك حاجة ماسة إلى دعم الأبحاث اللغوية التي تركز على دراسة العلاقة بين اللغة العربية واللغات المحلية مثل الملايوية. هذه الأبحاث يمكن أن تسهم في تطوير مناهج تعليمية أكثر فعالية تراعي التقارب اللغوي والثقافي بين المتعلمين.
ختاماً، إن تعزيز مكانة اللغة العربية على الساحة الدولية يتطلب رؤية استراتيجية شاملة تجمع بين التكنولوجيا الحديثة، والجهود الأكاديمية، والشراكات الدولية. ورغم التحديات القائمة، فإن الفرص الواعدة تتيح إمكانية بناء مستقبل مشرق للغة العربية في المجتمعات غير الناطقة بها، لتظل أداة للتفاهم الحضاري والتواصل الثقافي بين الشعوب.