م. مازن علي عباس
إن ما حدث في سوريا من تهاوٍ سريع لنظام الأسد وجيشه، وانسحابات متتالية دون قتال يُذكر أو مقاومة ملموسة، مما أدى إلى انهيار النظام الأمني في القبضة الحديدية والدعم اللا محدود من دول خارجية، وميليشيات طائفية، ومقاتلين أجانب محترفين خلال أيام معدودة فقط، وسيطرة فصائل المعارضة المنضوية تحت لواء غرفة عمليات ردع العدوان بقيادة هيئة تحرير الشام على معظم الأراضي السورية، بما فيها العاصمة دمشق، وما تلى ذلك من خطوات لتحويل العملية العسكرية إلى عملية انتقال سياسي للسلطة وتغيير في النظام وهيكلة وشكل الحكم والأنظمة والمؤسسات والإدارة في سوريا، وما صاحبه من تطورات وأفعال دولية وعالمية، وخاصة من دول الجوار، وأبرزها ما قامت به دولة الاحتلال الإسرائيلي من توسع احتلالي جديد وسيطرة على أراض سورية وضرب وقصف لكل مقدرات وأسلحة وأنظمة الجيش السوري المنهار والمختفي مع اختفاء تام لكل رموز وقادة النظام العسكريين والأمنيين بعد هروب بشار الأسد.
كل ذلك جعل الغالبية العظمى من المجتمع السوري بكل أطيافه ومكوناته وفئاته تتلون بلون الثورة، وتصبح على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ثائرة مناصرة للثورة مؤيدة لها، وفرحة بانتصارها، ولكنها في الحقيقة تنقسم إلى فئات متعددة، فمنهم من يعيش فعلاً نشوة النصر يفرح به ويأمل بالمستقبل الأفضل، ويعول على مكتسبات إما شخصية أو فئوية مما آلت إليه الأمور، ومنهم من يظهر الفرحة ولكنه يعيش حالة من الانهزام واليأس والخوف من الانتقام؛ لأنه كان موالياً أو متكسباً أو مرائياً للنظام البائد. ومنهم -وهم الغالبية العظمى من المجتمع- من يعيش حالة الفرح الحذر والأمل المعلق حالياً، سواء أظهر فرحه وآماله أم أخفاها، وتقوقع يضمد جراحه ويلملم آلامه وأحزانه الماضية بحذر وخوف من المستقبل المجهول وترقب لما ستكون عليه الأمور.
هذه الفئة الهامة والكبيرة من مكونات وأطياف المجتمع السوري تعيش صراعاً فكرياً ونفسياً حاداً فيما بين التوق للتغيير والحرية والأمل بمستقبل أفضل وحياة أرقى وبين المقاومة الداخلية الطبيعية للتغيير معززة ومدعومة بأفكار نظرية المؤامرة التي تربى عليها وتشربها وعاش جل حياته ضمن إطاراتها المختلفة، ولهذه الفئة الحق كل الحق فيما يعيشونه من تخبط بالمشاعر وفرح يشوبه الحذر، وأمل يكبله الخوف.
فالطبيعة البشرية انفطرت على مقاومة التغيير والخوف والرهبة منه مهما كان هذا التغيير محبوباً ومطلوباً، حتى عندما ينتقل المرء من بيت لآخر أكبر وأوسع، أو الطالب من مدرسة لأخرى أفضل من مدرسته.
إن مقاومة التغيير في رد فعل سلبي أو معارض للتغييرات التي تحدث في بيئة العمل أو في أي جانب من جوانب الحياة وهناك العديد من الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى مقاومة التغيير، مثل الخوف من المجهول، أو تضارب المصالح أو الروتين والعادة، أو غياب الاتصال والمشاركة، أو الجهل بفوائد وأهمية التغيير.
وكل ذلك متوفر في الحالة السورية الراهنة، خاصة لشعب عانى من بطش أمني وقهر سياسي ووظيفي وطائفة اقتصادية أودت به وبمقدراته وطموحاته إلى شفا هاوية سحيقة ليستفيق على صباح جديد مشرق يحمل معه كل الأحلام والآمال، دون أن يكون قد خطط لذلك أو هيأ نفسه له أو علم من أين وكيف أشرقت شمس هذا الصباح.
ولأن مقاومة التغيير قد تكون فردية أو جماعية، سرية أو علنية، فقد بدأنا نرى لها أشكالاً مختلفة ومتعددة لدى هذه الفئة يتجلى معظمها في مظاهر التقوقع والانسحاب، أو الاحتجاج المبني على تعجل النتائج والأخذ بالسلبيات وإهمال أية إيجابيات أو العدوانية الباطنية التي لا تظهر إلا كرد فعل على الأسرة والمحيط الضيق، أو السخرية، أو الإهمال المتعمد وهو ما سيؤثر سلباً على عمليات إعادة التنظيم والبناء والتحول المجتمعي والسياسي والمؤسسي والخدمي والاقتصادي المطلوب وقد تعرقل عملية التطوير والتحسين. لذلك على القيادات الحالية سواء من القيادة العسكرية لغرفة العمليات أو من القيادات المدنية والنقابية في حكومة الإنقاذ الانتقالية التعامل مع حالة مقاومة التغيير المدعومة بنظرية المؤامرة بحكمة وإستراتيجية ووعي، وذلك باتباع بعض الخطوات والطرق، مثل:
أولا - إضعاف فكرة نظرية المؤامرة من خلال وضع إجابات واضحة ومبررات مقنعة لكل الأسئلة التي تراود أطياف المجتمع حول ما جرى وكيف جرى؟ وتوضيح الحقائق العملياتية على الأرض وإظهار أية اتفاقات أو توافقات تم العمل بموجبها في حال وجودها وإعلانها للجميع.
ثانياً - على الحكومة الانتقالية اعتماد المبادئ التالية في تعاملها وقراراتها وتصرفاتها، وهي:
التواصل والمعرفة : يجب على القيادات العسكرية والحكومية أن توضح أسباب وأهداف كل عمل تقدم عليه، وكل قرار تتخذه وما هي المخرجات المنتظرة منه وأن تشرح لفئات المجتمع ما هي الفوائد والمكاسب التي ستعود عليهم كأفراد،وكفئات وأن تستمع لآرائهم ومخاوفهم، وأن تزيل أية شبهات أو تضليليات قد تحدث من خلال بناء منظومة إعلامية محترفة ومقنعة، قادرة على التعامل مع كل وسائل التواصل والإعلام الحديث والوصول لكل فئات وشرائح ومكونات المجتمع السوري.
المشاركة: يجب على الإدارات المختلفة في الحكومة الانتقالية وقيادات المنظمات والنقابات أن تجعل العاملين فيها والمنتسبين لها جزءاً من عملية التغيير، وأن تشجعهم على المشاركة في صياغة الخطط والاقتراحات والحلول، وأن تعطيهم مساحة كبيرة من الحرية والمبادرة، وأن تقدر جهودهم وإنجازاتهم. ضمن إطار الرؤية العامة للتحول المخطط لها والمنشودة من قبل قيادات الثورة.
المساعدة : يجب على القيادة العسكرية والحكومة الانتقالية أن تقدم الدعم والمساعدة
لجميع الفئات وخاصة تلك التي عانت من النزوح والتهجير وتدمير ممتلكاتها وأحيائها ومدنها بالتساوي والعدل دون التمييز بين منطقة وأخرى أو مكون وآخر، ودون إهمال أو تقصير بحق الأقليات أو الطوائف أو المحافظات، وأن تدعم المشاريع والأعمال الشعبية التطوعية التي تهدف إلى التنظيم وإعادة الإعمار والحفاظ على الممتلكات.
التفاوض والوصول لنقطة مشتركة: مع كل فئات ومكونات المجتمع السوري الذين قد يكون لهم مصالح متعارضة مع التغيير، وأن تحاول الوصول إلى حلول وسط ترضي الجميع، وأن تتجنب الصراعات والتوترات التي قد تؤدي إلى تفاقم الانقسامات وعدم تأييد التغيير ولا يمنع ذلك من إجراء محادثات مستقبلية مع الجميع دون استثناء حول طاولة مستديرة لا رئيس عليها ولا مرؤوس فيها تبث جلساتها على الهواء مباشرة عبر وسائل الإعلام السورية؛ ليتمكن كل مواطن سوري من معرفة أهداف ومتطلبات ونوايا كل فئة وكل مكون ممثل في هذه الجلسات، وليكون الجميع على بينة من حقائق الأمور ولينجلي للجميع من يعمل ويسعى لمصلحة الوطن السوري ككل ومن يعمل ويسعى لأهداف ومصالح شخصية أو طائفية أو فئوية ضيقة.
العدالة الحقيقية : التركيز خلال هذه المرحلة على بناء نظام قضائي مستقل نزيه مدعوم بالقوة الأمنية والعسكرية اللازمة يضمن إحقاق الحقوق والعدالة في كل النواحي وتطبيقها بشفافية وحيادية، وأن لا يسمح بعمليات الانتقام والثأر الأعمى والمحاسبة خارج إطار القانون، وحصر أية عمليات محاسبة أو استعادة حقوق أو مظالم أو غير ذلك من خلال هذا النظام العدلي الذي يضمن لجميع فئات المجتمع حقوقها ويوفر لها الشعور بالأمن والأمان والطمأنينة
الوعي الثوري : بما أن لكل ثورة أعداء كثر، وفي حالة ما جرى في سوريا فقد تلون الجميع بلون الثورة. وقد يكون غالبية المتلونين صادقين، ولكن يجب الحذر من الخلايا المتلونة التي تعمل بالخفاء لضرب صورة الثورة وتشويه سمعتها سواء بالأفعال أو الأقوال، وقد يكون ذلك بدعم وتخطيط وتمويل خارجي، وإيجاد خطط وحلول للتعامل مع هذه الحالات والتي ستستغل كل ما توصل له العلم من تطور وتقنية في المجالات المختلفة لتحقيق أهدافها. وستسغل مخاوف وحذر الشعب لبث الوهن والسلبيات وخلق الفتن من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومقاطع الصوت والصورة التي يمكنها أن تصل لكل بيت وكل فرد من أفراد المجتمع بسهولة ويسر ودون رقيب.
التطبيق العملي : أن تكون كافة التطبيقات العملية على الأرض للأهداف والشعارات التي تنادي بها القيادات وتسعى لتنفيذها من خلال الحكومة الانتقالية متوافقة مع ما يتم طرحه، وتثبت للمجتمع كله بأن هذه حالة ثورية سياسية شعبية قابلة للتطور والتجدد طالما أن الشعب هو مصدرها وهو الرقيب عليها، وهو يحاسب من يسعى لإضعافها أو استغلالها من خلال أنظمة الحكم والإدارة والتشريعات التي سيتم العمل بها، وأنها ليست مجرد حالة انقلابية هدفها استبدال السلطة السابقة بسلطة جديدة تحكم البلاد وتقود العباد باسم الثورة والشعب لا هدف لها سوى مصالحها الفردية الضيقة، وميزات الحكم والسلطة لأفرادها.