د.حمد بن عبدالله المانع
لم يطوِ الخبرُ الجزيرة، كما حدث للمتنبي، كي «أفزع بآمالي إلى الكذب» مثلما صنع أبو الطيب حين فاجأته وفاة أخت سيف الدولة؛ فقد كنتُ على علمٍ بمرض الأخ الوفيّ عبدالله بن زامل الدريس، ولكني تشابهتُ مع أبي الطيب في أنني كنتُ بعيدًا عن الوطن وقت وفاته فتألمتُ أنْ لم أكن قريبًا كي أتشارك دموعي مع محبيه، وأصهر حزني بجانب أحزان عارفيه، وأستعيد ذكريات العمل معًا بما رافقها من تحدياتٍ وتمنيات.
عمل أبو نايف وكيلًا لوزارة الصحة عدة سنوات، وامتاز رحمه الله بسمات شخصية وعملية أهلته لإنجاز أعمال جليلة سوف يخلدها له الوطن، وتحفظها عنه الأجيال، وليس بكثير عليه أن يشاد به، ويعترف له بالفضل والإحسان والسبق.
عُرف الدريس بدماثة الخلق، وحسن المعشر، وعفة اللسان، ممتعًا بمخافة الله، وحب الخير، ونزاهة اليد، وصدق العطاء، والتفاني بالخدمة العامة، وما من مركز صحي أو مستشفى عامٍ أقيم أو جُدد خلال سنوات مضت إلا وللدريس بصمة حاضرة فيه مباشرة أو غير مباشرة.
أكتب هنا من موقف المعايش العارف بما تم، ومن ذكرياتي حين عملنا معًا في وزارة الصحة أني لم أكلفه بمهمة إلا أداها بكل أمانة وإخلاص، ولذلك أوكلت إليه رئاسة لجنة ترقيات الموظفين من العاشرة إلى الخامسة عشرة؛ فلم يحابِ صديقًا ولا قريبًا، ولم يستبعد أيَّ شخصٍ لأسبابٍ غير مقنعةٍ أو موضوعية.
وعندما أخذت موافقة المقام السامي في جلسة مجلس الوزراء عام 1424 هـ على ابتداء فحص الزواج، سألني ولي العهد الأمير عبدالله -الملك فيما بعد- كم نحتاج من الوقت لتحضير وزارة الصحة للبدء بهذا المشروع؟ أجبته -رحمه الله- من فوري: أحتاج فقط شهرين! كان جوابًا جريئًا لكني كنت واثقًا بمن سأوكل إليه هذه المهمة الوطنية العظيمة التي ستخدم المجتمع، وتحمي المواليد من الأمراض الوراثية الخطرة.
أسندتُ المهمة إلى رجل المسؤوليات الصعبة، ومن غيرُ أخي أبي نايف، وكان كفؤًا لها؛ فخلال شهرين فقط جرى تحضير جميع مستشفيات المملكة لهذا العمل الوطني الكبير الذي مثَّل نقلة حيويةً غير مسبوقة؛ فقد كوَّن مع فريق عمله الطواقم البشرية من أطباء وفنيين وكوادر تمريض، وأمَّنوا الأجهزة الطبية المختصة بالفحص، وأتموا تدريب العاملين في هذا المشروع، وابتدأ الفحص الطبي الإلزامي قبل الزواج بداية قوية متينة عام 1425 بقيادة عبدالله الدريس وفريقه، وإنها لخدمة عظمى كبيرة الأثر في الدنيا وأدعو الله أن ينالوا الأجر في الآخرة.
ومما أعرفه عن قرب أن أبا نايف بلغ مستوىً راقيًا من الإحساس بالمسؤولية، واكتسب بثقة الجميع مساحةً من الصلاحية جعلته قادرًا على إيثار النفع العام وعدم الاستئثار بالنجاح، أو النفاذ من هذه المزايا للحصول على امتيازات خاصة، وهذا شأن من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، وأثق أنه لم يرضخ لطمع أو يستجب لإغراء، والله يجعل جنانه العالية هي المأوى والمستقر له.
هذا جزء من مآثر أبي نايف الذي أعلى قيم جودة العمل، وجمال الزمالة، ونزاهة اليد، ولم يُدخل على نفسه ولا على أهل بيته شيئًا فيه شبهة، حتى لو حُرم من بعض الإضافات؛ فالفوز براحة البال، ورضا الذات، وسعادة الآخرين تفوق مكتسبات مَنْ شأنه تلميعُ الظاهر ولو قلقت نفسه واضطرب خاطره.
وعزاؤنا في رحيل فقيدنا الأثير أن {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وأن ما يفصلنا عمن سبقوا فوارقُ توقيت؛ فاللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وأستعيد هنا ما قاله أبو البقاء الرّندي:
أتى على الكلِّ أمرٌ لا مردَّ لهُ
حتى قضَوا فكأن القوم ما كانُوا
ومع إيليا أبي ماضي:
طوى بعضَ نفسي إذ طواهُ الثرى عنّي
وذا بعضُها الثاني يفيضُ به جفني
اللهم ارحم أخانا عبدالله الدريس، وارفع درجته في عليين، واجعل له نصيبًا من الأجر كفاء ما أسهم فيه مع زملائه من محاربة الأمراض، وصحة المواليد، وطول الأعمار بإرادة الله وتوفيقه، فازدادت العبادات والطاعات والخيرات، ونواتجها لوطنهم وولاة أمرهم ومواطنيهم، واللهم عمّ بهذا الدعاء ولاة الأمر، وجميع من خدم الناس مهما كانت وظيفته، وكل من شارك بنفع المجتمع في الماضي والحاضر والمستقبل، والحمد لله على ما قضى ويقضي.