سام الغُباري
على أرضٍ تنبض بتاريخٍ لا يشيخ، حيث الشمس تتسلل من بين أحجار #الدرعية العتيقة، تلامس جباه الحاضر بوقار الزمن القديم. هنا، في ميادين قاعة الدرعية، تنساب الأرواح كما لو أنها نُسجت من تراب المكان وحكاياته، تحت سقفٍ يُشبه مجرّة ممتدة لا تنتهي، جدرانه تفيض من دفء الحكايات، وأرضه تحنو تحت خطوات المؤثرين القادمين من أصقاع الأرض، كأنهم ضيوف على وليمة النور.
كان الإعلان عابرًا، ظهر في منصةٍ تفيض بما يستهلكه البشر من صور وأفكار. ملتقى صُنّاع التأثير. شيءٌ يقيمه الزمن السعودي الجديد، تُنظّمه وزارة تكتب فصلًا إضافيًا في كتاب الطموح. تركتُ الصمت الذي أختبئ خلفه. لأول مرة أردت أن أراقب أصواتهم. أردتُ أن أعرف كيف يُصاغ التأثير حين تُستبدل الكلمات بالفعل.
على حافة الموقف، بدت سيارتي المتواضعة غريبة بين جموع الفخامة، مركبات تلمع كأنها ولدت من فكرة الضوء. خبأتها خلف الصفوف الأخيرة. تبرأت منها ومضيت. باصات النقل اصطفت، مستعدة لحمل الناس إلى بهاءٍ لم يتوقعوه. مواقف المكان لم تكن عادية، شيء يشبه حشد المدن في ساعة يقظتها. كان العدد مُذهلًا، كأن لا مدينة أخرى تحت الشمس تستحق الزيارة.
المسافة بين الباص والمدخل كانت حياةً مختصرة. أيدٍ مفتوحة، ابتسامات تُضاء بصدق، لغات تتطاير بلا حواجز، سعوديون وسعوديات بحضور يشبه الإجابة على سؤال لم يُطرح بعد. قاعة ميادين واسعة، بلا حدود تُحاصر العين. الأرض تلمع كمرآة تُعيد إليك دهشتك الأولى، والسجاد بلون الخزامى يُبسط الطريق لمن يحمل شيئًا من التأثير.
ورود توزّع السعادة كما يُوزع المطر الغزير على الأرض العطشى. أصواتٌ تُرحب، كلمات تُلقى، وضوء يُحيّي الممرات. لا زحام يُشبه هذا الزحام، لا هدوء يُشبه هذا الاحتفاء.
وقفت هناك. للحظة، كان الحضور ينتظر شيئًا أكبر مني، أكبر منهم، شيئًا يتجاوز ضجيج القاعات الاعتيادية. صنعت مقعدًا من ظلي، وجعلتني واحدًا من جمهورٍ أراد أن يرى، أن يسمع، أن يُعيد تعريف الصمت الذي يكبّله.
في ذلك الصرح، حيث السجاد يتموّج بنقوش تُشبه وشم الرمال ساعة تراقصها المريح، وحيث الضوء يُغازل المرايا فيخلق زوايا من ذهب، وقف العالم يتأمل المملكة وهي تعيد صياغة لغة التأثير.
تابعت كل تفصيل بشغف، كما يتابع نحاتٌ تشكيل تمثاله الأخير. كنت أنصت للمكان قبل الأصوات، أرقب كيف تتجاور العقول وتتشابك الأيدي لتُعيد تشكيل الغد. مشهدٌ أبعد من مؤتمر، أقرب إلى ملحمة بشرية تكتب تفاصيلها على نسيجٍ مرصع بالرؤى.
تجاوز الملتقى الأرقام بمساحته الشاسعة التي فاقت 23 ألف متر مربع، وتجاوز الحضور بتوافد أكثر من 30 ألف زائر، لكن القيمة الحقيقية كانت في نبض الأفكار التي وُلدت. في ورش العمل والحوارات، كانت الكلمات تُطرح كحجارة كريمة فوق طاولة المستقبل. التأثير لم يعد يُختزل في عدد الاعجابات أو المقاطع المتداولة؛ التأثير أصبح معادلة خالدة.
قال الأستاذ سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي؛ في لحظة أقرب إلى الحكمة من التصريح: المؤثرون ليسوا فقط على الشاشات؛ هم مُعلم في فصلٍ يُحيّي الحروف في قلوب تلاميذه، أمٌ تُربي خلف الأبواب المغلقة رجالًا يحملون على أكتافهم قضايا المستقبل، جارٌ يطبطب على باب الحياة ليُعيد ترتيب أولويات الجوار.
عام 2025 حمل معه وعدًا: سيكون عام التأثير. لم يكن هذا الشعار مجرد عتبة من زمن تُضاف إلى التقويم، بل صرخة هادئة بأن المملكة ليست لاعبًا على هامش العصر؛ هي من يقود إيقاعه.
في ورشةٍ كُتبت على جدرانها أسئلة المستقبل، ناقش الحاضرون الذكاء الاصطناعي ومصيره. هل سيختفي المؤثر؟ هل تصبح الآلة أقدر على فهم الإنسان؟ لكنّ أحدهم قال، بصوت عميق كأنما هو بئر التاريخ: سيبقى التأثير إنسانيًا ما دام الحلم لا يُزرع في الآلات.
وسط الزوايا الأربع عشرة التي صُممت لتحتوي شتى المسارات: التقنية، الفنون، الاقتصاد، البيئة، الرياضة، كانت الأحاديث تنساب كأنهار تجتمع لتصب في بحر لا تُرى نهاياته.
قاعة ميادين في الدرعية لم تكن مجرد فضاء يجتمع فيه الناس؛ كانت كقلب الأرض يضخ طاقته إلى أرجاء المكان. كان الضوء الذي يتسلل من نوافذها يُشبه #دفء_السعودية حين تفتح ذراعيها لكل فكرة جديدة. وكان المتحدثون كمن يحفرون على ألواح الزمن أسماءً لا تمحى.
وعند خروجي، ترَدّدت داخلي تلك اللحظة كما يتردد الصدى بين الجبال: كيف استطاعت المملكة إعادة رسم وجه التأثير؟ وكيف استطاعت قاعة ميادين أن تجمع العقول كما يجمع البحر حبات المطر؟
في ظلال الدرعية، حيث الأرض تحفظ ذاكرة التاريخ، وحيث النجوم تُنصت للأحاديث، بعثت السعودية للعالم رسالةً كتبتها بمداد الحكمة، ومضت بها بخطى ثابتة، كما لو أنها تتقدم وحدها في سباق لا يُدركه غيرها.
.. وإلى لقاء يتجدد.
** **
- كاتب وصحافي من اليمن