عبدالعزيز أبانمي
تعيش المملكة العربية السعودية تحولاً تنموياً تاريخياً غير مسبوق، متمثلاً في مشروع تجديدي واستمراريٍ للتنمية السعودية يقوده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وبإشراف ومتابعة مباشرة من لدن سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله -.
يُعطي هذا المشروع التنموي، المتجسد في جزء كبير منه في رؤية المملكة 2030، المواطنَ السعوديَّ أولويةً قصوى ويضع رفاهيته وتطوير قدراته ركناً أساساً ويستهدف تأهيله؛ لمواكبة نسق التغير المتسارع باعتباره حاجةً يتعين تحقيقها. ولعل ما ورد في النبذة التعريفية للرؤية على موقعها الرسمي على شبكة الإنترنت من أن «الرؤية وضعت في صميم أولوياتها تمكين المواطن وتعزيز ريادة المملكة العالمية» لأبرز دليل على توجيه الاهتمام صوب الفرد وتطويره وتمكينه. إن تطوير قدرات المواطن السعودي المتمكن من التواصل الفاعل مع الجميع على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم ولغاتهم هو جزء مكينٌ من أهداف الرؤية؛ فموقع المملكة العربية السعودية الاستراتيجي في ملتقى الطرق بين ثلاث قاراتٍ رئيسةٍ، وكونها همزة وصلٍ بين مختلف هذه الكيانات الجغرافية الثلاثة بكل ما تحتضنه هذه الكيانات من تنوع حضاري وإرثٍ ثقافي وتنوعٍ لغوي ضخم، يقتضي تزويد الأجيال الشابة من السعوديين بقدرة مُؤسسةٍ على نحوٍ احترافيٍّ على التفاعل السلس والتواصل الفاعل مع مختلف المتحدثين بما تنوع من لغات يتكلم بها لا قاطنو تلك القارات فحسب بل وغيرها من قاراتٍ وإن بعُدت جغرافياً فإنها أضحت قريبةٍ بفضل القفزات الضخمة في تطور التقنية عموماً وتقنية التواصل عن بعد تحديداً.
من هنا فليس بمُستغربٍ أن يقومُ هذا الحراك التحولي النوعي الذي يديره صانع التحول ورُبّان الرؤية التنموية الجديدة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وبتوجيهٍ ومتابعةٍ من خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في جزءٍ مُعتبرٍ منه على الإقبال على كل المجتمعات وتقبلها والتداخل معها والانفتاح على ثقافاتها؛ واللغة جزءٌ مكينٌ من تلك الثقافات ولا شك. ومثل هذا التحول الذي يروم التواصل الفاعل مع مختلف ثقافاتِ ما تنوع من أقطاب الحضور الدولي، وهي الثقافات التي تتباين فيما بينها من حيث اللغة، يتطلب حراكاً لغوياً يضع في مقدمة أولوياته تمكين اللغة العربية وجعلها لغة فاعلة يجيدها الجميع، مع فتح المجال لإمكانية تمتع الكل بالثنائية اللغوية (أياً كانت اللغة الثانية). ولقد كان شرط تحسين تعليم العربية وتجويد وسائل إتقانها هو منطلق أي سياسة لغوية سعودية وجوهر اهتمام صاحب القرار منذ نشأة المملكة العربية السعودية، «فالمادة الأولى من النظام الأساسي للحكم تنص على أن اللغة العربية هي لغة المملكة العربية السعودية، كما أن معرفتها شرط في نظام الجنسية العربية السعودية» (المحمود، 2020). ومما لا ريب فيه أن الجهود المبذولة في هذا المسار المُكرّسِ لخدمة اللغة العربية وتعليمها جليّةٌ وواضحةٌ، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى موافقة مجلس الوزراء على إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية لإبراز مكانة اللغة العربية وتفعيل دورها إقليمياً وعالمياً، وتعزيز قيمتها المعبرة عن العمق اللغوي للثقافة العربية والإسلامية، باعتبارها شاهداً ودليلاً على هكذا اهتمام من القيادة الرشيدة بهذه اللغة.
ومع ظفرِ المملكة العربية السعودية بشرف تنظيم كأس العالم 2034 وقبل ذلك استضافة إكسبو 2030 تتبدّى حتميّة مراجعة المشروع اللغوي والترجمي؛ كي يتماشى مع المستهدفات ويضمن الوصول لها على نحوٍ محكم ومقنن وخاضع لمقاييس الجودة واشتراطاتها ومستهدفاتها. ويمكن للمتابع المطّلع والمهتم بالشأن اللغوي عموماً والترجمي خصوصاً أن يلحظ عدم ارتقاء الممارسات ذات الصلة بالتنوع اللغوي وتعدده والتخطيط اللغوي وما يستلزمه من سياسات لغوية، للمـأمول في بعض المؤسسات التعليمية المُكرّسةِ للشأن اللغوي لا في التعامل مع مثل هذا الواقع اللغوي ومعالجة مثالبه، بل وسدِّ الاحتياجات النهضوية والمجتمعية والتحولية، وتحديداً في السنوات القليلة الماضية التي شهدت حراكاً تحولياً منفتحاً على العالم الآخر.
إننا نعيش في ظِلِّ عَاَلَمٍ تَبَدَّلتْ خارطتُه من حيث القوى المُؤثِّرَةِ ذات النفوذ وتنوعت أقطاب الحضور الفاعل فيه، وهو ما أفضى إلى إرهاصات بدءِ هيمنةِ ثقافاتٍ مختلفةٍ وتشكُّل هوياتٍ لغويةٍ جديدة وتنّوع اللاعبينَ أصحاب السطوة، وتعدّدت قِوى الحضورِ الدولي ولم يعدِ العالمُ أحادّي قُطبٍ تحكمهُ قوةٌ عظمى واحدةٌ تنفردُ بهيمنة ثقافتها وشيوعِ لغتها، ولم تعد اللغة الإنجليزية هي اللغة الأقوى والأمضى حضوراً بشكلٍ مطلقٍ كما كان عليه الأمر خلال الخمسين عاماً الماضية على الأقل.
وفي ظل معطياتٍ عديدة أهمها أننا أمام مشروعٍ سياحيٍ تجتذب فيه المملكة العربية السعودية أعداداً كبيرةً من الزائرين من مختلف الدول، وثانيها تغير معطيات سوق العمل ومشهده، والحاجة إلى فرق عمل دولية مكونة من أفراد ذوي مشارب ثقافية متنوعة ويتكلمون لغات مختلفة ومتعددة، بحيث تصبح مَلَكةُ الطلاقة اللغوية في أكثر من لغتين مقرونةً بالاستيعاب الثقافي من المزايا المطلوبة بشدة في سوق العمل، وثالثها عديد الدراسات التي تشير إلى علاقة إيجابية طرديةٍ بين القدرات والمهارات المعرفية والطلاقة اللغوية في أكثر من لغتين، يتعيّن إحداث تغيير نوعيٍ على المشهد اللغوي والترجمي السعودي يتماشى مع هذه الحقائق، ويُفضي إلى تعليمٍ مستقبلي التوجه يعترف بأهمية التعددية اللغوية والقدرة على التفكير على مستوى أشمل، والتعامل مع التنوع الثقافي الدولي.
ولئن كانت الجهود فيما مضى فاعلةً في الحصول على الكثير من النتائج الإيجابية التي خدمت المشروع التنموي السعودي الرائد، فلعله من المنطقي القول إنه قد حان الوقت للتفكير في إيجاد «هيئةٍ عليا للغات والترجمة» تجمع مختلف الكيانات والمؤسسات الحكومية المرتبطة بالشأن اللغوي وقضايا الترجمة تحت مظلةٍ واحدة. ومن أبرز هذه المؤسسات التي يمكن ضمها إلى هذه الهيئة كليات اللغات والترجمة المختلفة الموجودة في عديدٍ من الجامعات السعودية، إضافةً إلى قطاع الترجمة في «هيئة الأدب والنشر والترجمة»، وهو ما سيسهم في مرونةٍ أكبر وقدرةٍ أعّم على التكيف لا مع احتياجات سوق العمل فحسب، بل والفعاليات المستقبلية الكبرى التي تحتضنها المملكة العربية السعودية في قادم السنوات. كما أن وجود مختلف هذه الكيانات تحت سقفٍ إداريٍ واحد يعني زيادة التنسيق بينها ورفع مستوى الكفاءة التشغيلية في ظل التغلب على التداخل في الأدوار وتعظيم الاستفادة من الكفاءات وتحقيق النتائج والوصول إلى المُبتغى من مخرجات عبر أكثر الطرق فاعلية.
ومن نافلة القول هنا الإشارة إلى أن التعليم والتدريب المرتبط باللغة والترجمة أضحى في حاجة ماسةٍ لتقبل التغيير واستيعاب معطيات العولمة، بحيث تصبح التعددية اللغوية حقاً أصيلاً لمرتادي التعليم العام والخاص وبما يساوي الفرص بين الجميع. ولعل قطاع التعليم العام هو من سيكون على قائمة من ينصب التركيز نحوه لتقديم تعليم لغوي يؤدي إلى شيوع الطلاقة اللغوية المتعددة.
ختاماً فإن مقاربتنا للتعليم اللغوي لا يمكن لها أن تتطور ما لم يكن هناك إيمانٌ بدوره في تعزيز فرص العمل والتنمية الاقتصادية وتطوير المهارات الشخصية، وتعزيز التبادل الثقافي والانفتاح على العالم وتحقيق التنافسية الدولية وأثره الإيجابي على مستوى الأفراد في تحسين المهارات الإدراكية والمهام التنفيذية والذاكرة.
ومن المؤكد أن هذه الهيئة المُقترحة سيكون لها دورها الريادي في رسم السياسات اللغوية والأهداف التعليمية والإجراءات العملية، وتبنّي المبادرات التي تخلق تعليماً لغوياً نوعياً يرتكز على الطلاقة اللغوية في أكثر من لغتين.