د. هيثم الصديان
قال المسرحي الألماني إفرايم لِسِنغ: «مَن لم يفقد عقله أمام بعض الحوادث فليس له عقل يفقده».
هنيئاً لمن ملك حشمة الجنون أمام ما يحدث اليوم، أولئك الذين لا يستطيعون شيئاً. على حين أنّ الذين يستطيعون يَهْنَؤُون بمجد تعقلهم وحِلمهم.
كلّ ذلك لأنّ مُباحات السياسة فوق ضرورات الأخلاق والدين والحياة..
فحين يسطو لص على بنك ما، أو على أي شيء، ويحاول السيطرة عليه، فإن الدول ذات القوانين تكلف الشرطة أو حتى جيشها - إذا استدعى الأمر- للقبض عليه وتخليص المكان منه؛ فإن أبى وتجبر واستعصى، فإنها تقضي عليه وترديه قتيلاً.
ولا أحد من البشر على وجه الأرض يتعاطف مع المجرم (اللص). بل يُكرّم قتلته، ويمنحهم القانون مراتبَ أعلى، ويُنظر إليهم من الناحية الأخلاقية على أنهم قاموا بعمل شريف..هكذا أعراف البشر وأخلاقياتهم.
وأما مسألة القسوة والعنف فتصير ثانوية وتجد لها مسوغاتها التشريعية والأخلاقية.
ولذلك فمسألة مناقشة وحشية الكيان وداعمه الأمريكي خاصة والغربي عامة هي مسألة كاذبة.
وكذلك الأمر مسألة وحشية المقاومة وتصرفاتها.
المسألة الأصل: مَن صاحبُ الحق، ومَن المتعدي المعتدي؟.
هكذا يناقشها أسياد الموقف؛ سواء أكانوا الجانبَ الأمريكي وكيانه الحليف، أم المقاومةَ بكل أطيافها وتوجهاتها ..
لكن الأتباع والمتحذلقين وشعراء القومَيينِ هم مَن يثيرون مسألة ثانوية مضللة ولغايات مضللة.
فالسؤال الوحيد المحق والمجدي هو: مَن صاحبُ الحق؟ هل هم المستوطنون بوصفهم -كما يدعون- شعبَ الله المختار، أم الفلسطينيون أحفاد الكنعانيين؟
أما التفاصيل؛ فكل المقاومين عبر التاريخ كانتِ القسوةُ والتوحش إشكاليةً لا بد منها في مسيرتهم.
فإن كان المستوطنُ المسكينُ، الذي عبر آلاف الأميال، وترك دياره ووطنه، وجاء إلى فلسطين ليقيم فيها وطناً جميلاً له ولأولاده ولأحفاده، يعلن عليها سيادته ويحقق حلمه، ويطرد سكانها، أو ربما يستبقيهم عمالاً لديه رأفة بهم ودليلاً على تحضره وتلطفه بالمتخلفين.. إن كان هو صاحب الحق، فليس من العدالة أن نثنيه عن حقه لمجرد أنه استخدم القوة في تحقيق مراده، وفي إجبار هؤلاء المتخلفين على إحقاق الحق والانصياع له.
وإن كان الفلسطيني صاحبُ الأرض، هو مَن يمثل الحق حين يرفض الاعتراف بحلم ذاك العابر؛ فإن المطالبةَ بتأديبه أو إنهائه لمجرد أنه كان عنيفاً، تعد استطراداً وعيّاً خادشين لجمال البلاغة وعفة الصدق وحياء الأخلاق ..
ومهما طال الوقت وبعد الزمان فلا بد أن يأتي أوان تحقيق الحلم الفلسطيني المشروع بإقامة دولتهم المنشودة، وهذا لا يكون إلا ببسالة أبناء الأرض ووقوف العرب صفاً واحداً خلفهم. وهذا - أيضاً- لا يكون إلا بانفتاح المقاومة على الحضن العربي وتوجهها نحوه.
وإن كان هذا لا ينفي الدور الإسلامي الداعم؛ فمنطقتنا بحاجة إلى أن تهنأ بالاستقرار المأمول، وهذا لن يتحقق من دون القضية الفلسطينية. وعليه فإن التعويل على قمة عربية- إسلامية تعويل مشروع شرط أن يأتي بالجديد المختلف، وأما عدم التعويل المسبق فهو عدم غير مشروع. لقد آن لنا- دول المنطقة عرباً ومسلمين- أن نثق بتجاورنا وتعاوننا وأن نتطهر من بقايا الفكر الاقصائي والتوسعي والتخويفي والتخويني، وأن نؤمن بتاريخنا وعيشنا الحضاري المشترك ودورنا الإنساني فيه، الذي يبدأ من ثقتنا ببعض، ويكتمل بدورنا الفاعل في إحلال الحق الفلسطيني، ثم يصير شرقنا منارة يهتدي بها غربهم الاستعماري المتهاوي أخلاقياً والآفل حضارياً.
كل المجد للمقاومة الفلسطينية ومَن معها (ما دامت مقاومة) حتى لو أُبيدوا. والعار يكلل الكيان ومَن معه حتى لو نجا ونجوا ..