د. تنيضب الفايدي
المريسيع عبارة عن عدة آبار ماء وتقطن قبيلة بني المصطلق حولها، قال ابن سعد: «المريسيع بئر لبني المصطلق كانوا ينزلون عليها، بينها وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد»، قال ياقوت: «المريسيع كأنه تصغير لمرسوع وهو الذي انسلقت عينه من السهر، وهو اسم ماء في ناحية قديد إلى الساحل». قال البكري: «المريسيع ماء بنجد في ديار بني المصطلق بن خزاعة، وهو من ناحية قديد إلى الشام».
واشتهرت بوقوع الغزوة في أرضها، فتنسب إليها حيث يقال غزوة المريسيع، وتنسب أحياناً إلى القبيلة التي كانت تقطن فيها وهم بنو المصطلق قبيلة من خزاعة ورئيسهم الحارث بن ضرار الخزاعي، فيقال: غزوة بني المصطلق، قال ابن دريد: المصطلق واسمه جذيمة، سمي المصطلق لحسن صوته كأنه مفتعل من الصلق، شدة الصوت وحدته، ويقال: صلق بنو فلان بني فلان إذا أوقعوا بهم فقتلوهم قتلاً ذريعاً، والصلائق ما صلق من اللحم بالنار، وهو الذي تقول العامة سلق، وهم أحد بطون خزاعة.
ويقع المريسيع في منخفض من واد سحيق يطلق عليه حالياً وادي ستارة على طريق الهجرة الذي يربط بين مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة (علماً بأن اسم طريق الهجرة لا علاقة له بالمواقع التي مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته إلا موقع أو موقعين فقط)، وما زال الموقع (أي: المريسيع) بهذا الاسم معروفاً، وهو مكان تحيط به من الشرق والجنوب الشرقي سلسلة من الجبال المتصلة والمرتفعة، ومن الغرب بعض الحرار والجبال، وكان بعيداً عن طرق القوافل والحجيج والرحالة حيث إن الدرب السلطاني يبعد عنه أكثر من عشرين كيلومتراً غرباً، أما طريق الحاج العراقي والبصري فيبعد عنه أكثر من مائة كيلو شرقاً، إذاً المريسيع يعتبر في موقع يصعب الوصول إليه، ومع ذلك فإن بعض المؤرخين وصل إليه، ومنهم الواقدي حيث قال: «ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشاهده؟ وأين قتل فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع الذي أخبرني عنه فأعاينه ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت من غزوة إلا ومضيت إلى موضعها حتى أعاينه»، وألّف بأسلوبه هذا كتاب (مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومحمد بن عمر الواقدي خصص ذلك المكان لبيان صعوبة الوقوف عليه، ولكن أيّ مؤرخ لم يقف على المكان ونقله عن غيره فإن ذلك (قد) يطعن في مؤلفاته؛ لأنّ المكان مهما بَعُد يرتبط بالحدث ارتباطاً وثيقاً، وعندما تكتب عن أي غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم أو سرية ولا تعرف مكانها فإن ذلك يعتبر عجزاً في توثيق المعلومة.
وما زال الموقع بهذا الاسم وهو مكان منخفض في بطن الوادي وسكن بنو المصطلق في بطن هذا الوادي حول جبل صغير أقرب إلى الأكمة، فموقعهم غير آمن؛ لأنهم لا يراقبون من يقدم إليهم من أي جهة من الجهات، ويزيد ذلك أن من يحتل الجبل الصغير يسيطر على القبيلة سيطرة تامة، فكلمة (غارون) التي أوردها البخاري ومسلم في هذه الغزوة هي الكلمة المناسبة لموقع بني المصطلق فعن عبد الله بن عمر وهو شاهد عيان حضر الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية. متفق عليه. وكلمة (غارون) تعني أن الغزوة وقعت دون إنذار وفي غفلة منهم حيث بوغتوا واضطربوا ولم يتمكنوا من المقاومة طويلاً.
وقد ارتبط المريسيع بحدث تاريخي مهم وهو غزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق وهذه الغزوة لها أهمية كبيرة، وقد اختلف العلماء في تاريخ هذه الغزوة، وانحصرت أقوالهم فيها فيما بين السنة الرابعة والسادسة للهجرة، حيث استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة زيد بن حارثة مولاه، وقيل أبا ذر الغفاري، وخرجت معه صلى الله عليه وسلم من نسائه عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق وراية الأنصار لسعد بن عبادة رضي الله عنهم أجمعين.
وقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصوله إلى المريسيع من المواقع الآتية: بئر السقيا (ولاحقاً مسجد السقيا)، وادي العقيق، ذو الحليفة، البيداء ، تربان، ملل، غميس الحمام، صخيرات اليمام، السيالة، الروحاء، عرق الظبية، شنوكة، المنصرف، قرية بئر قيضي، قرية أم البرك، وادي الفرع.
انتصر المسلمون انتصاراً سريعاً وتم أسر جميع رجال بني المصطلق وسبي ذراريهم وتم أخذ أموالهم غنائم ولم يقتل من المسلمين إلا هشام بن صبابة وقد قتل خطأ، وكان من ضمن السبايا جويرية بنت الحارث وقد قتل زوجها في هذه الغزوة وتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موافقتها؛ لأنها جاءته تستعين به على مكاتبتها لتحرر نفسها. وقد حدثت قصتها السيدة عائشة رضي الله عنها ملخصها: «أن جويرة رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شمس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: «فهل لك في خير من ذلك». قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «اقض عنك كتابتك وأتزوجك». قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله قد تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها. وجاء الحارث بن أبي ضرار - بعد الوقعة - بفداء ابنته إلى المدينة فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم.