د.حادي العنزي
حققت رؤية المملكة نتائج إيجابية ومميزة في مجال تحسين جودة الحياة وتعزيز رفاهية المواطنين، في الوقت الذي ظهرت فيه مقترحات ونقاشات مؤخراً حول تقليص أيام العمل الأسبوعية إلى أربعة أيام فقط، كأحد الحلول التي تُسهم أكثر في رفع وتحسين جودة حياة الموظفين وزيادة سعادتهم وإنتاجيتهم.
هذا الموضوع يأخذ أهميةً وطنية، تتطلب دراسات اقتصادية وصحية واجتماعية، وهو -كما أعتقد - أداة محتملة لدعم الأهداف التنموية، وزيادة الرضا الوظيفي، وتعزيز صحة الموظفين النفسية والجسدية، مما يُسهم في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
حالياً لا توجد لدينا في المملكة قائمة رسمية أو شاملة بالشركات السعودية التي تُطبق نظام العمل (4) أيام في الأسبوع، إلا أن هناك شركة واحدة في الرياض - حسب علمي- متخصصة في مجال التقنية أعلنت ذلك رسمياً، بالإضافة إلى بعض المحاولات التي قد تأتي عن طريق اعتماد ساعات العمل عن بُعد.
وهناك شركات بدأت تمنح كل موظف من منسوبيها رصيدا سنويا يصل تقريباً إلى شهر عمل عن بُعد بحيث تُوزع الأيام ويستفاد منها خلال العام الميلادي، ولعل ذلك بدايةً لمن يتوجسون الخوف من تقليل أيام العمل بالرغم من أنه نظام عالمي يتوافق مع التوجهات والتوقعات المستقبلية لعالم الأعمال؛ إلا أن ذلك يعتمد بالدرجة الأولى على أصحاب القرار في الشركات ومدى جاهزيتها لتطبيق الأتمتة، فالشركات التقليدية يصعب عليها تطبيق هذا المفهوم. ثم أن التحول إلى تخفيض أيام العمل يواجه في الوقت الحالي تحديات أبرزها خوف صناع القرار في الشركات المحلية من اعتماد نمط العمل الجديد، وهذا الخوف طبيعي سواءً عند صاحب العمل أو الموظف، وذلك بسبب التمسك بالتقليدية وأن ثقافة العمل الطويل ترسخت على أنها جزء من الهوية المهنية. كما أن قوانين العمل تحتاج إلى التعديل لتسهيل تطبيق نظام العمل إلى (4) أيام، بما في ذلك تنظيم ساعات العمل والأجور.
أيضاً بعض الشركات قد تجد أن نموذج العمل التقليدي أكثر ملاءمة لتلبية احتياجات العملاء ومتطلبات السوق، بالإضافة إلى تخوّف بعض الشركات من أن ذلك قد يؤثر سلباً على الإنتاجية والأداء العام، وكذلك القلق من التكاليف المرتبطة بتطبيق النظام، مثل الحاجة إلى توظيف المزيد من العاملين لتغطية ساعات العمل.
والأهم من ذلك يتمثل في عدم الوعي بالفوائد والتأثيرات الإيجابية على الصحة النفسية والإنتاجية، وصعوبة تبني الشركات للتكنولوجيا اللازمة لدعم النظام الجديد في العمل.
ومع هذا التخوف والترقب الحذر من الاستخدام المفرط للتقنية ومستقبل الأسواق العالمية، توجد دول رائدة ولها تجارب ناجحة في هذا المجال، على سبيل المثال فإن نظام العمل (4) أيام في الأسبوع أصبح شائعاً في أيسلندا، خاصة بعد التجربة الناجحة التي أجرتها الدولة بين عامي 2015 و2019 وشملت 2500 موظف. وفي بلجيكا تم رسمياً في 2022 اعتماد هذا النظام، حيث يستطيع الموظفون العمل ساعات أطول يومياً لتقليل عدد أيام العمل. فيما حققت شركة «Perpetual Guardian» في نيوزيلندا نجاحاً كبيراً، ومثلها مايكروسوفت اليابانية التي جربت النظام في 2019، وزادت الإنتاجية بنسبة 40 % مع توفير في تكاليف التشغيل، فيما تُعد تجربة المملكة المتحدة في 2022-2023 من أشهر وأشمل التجارب العالمية في هذا المجال، حيث شملت 61 شركة، وأثبتت أن 92 % من الشركات فضلت الاستمرار في النظام بعد انتهاء التجربة، فقد أسهم تقليل أيام العمل في خفض التوتر عند الموظفين بنسبة 39 % وتحسن الرضا الوظيفي بنسبة 45 %.
ونحن في المملكة، ولأسباب مختلفة؛ لدينا مبررات عدّة لتطبيق العمل (4) أيام في الأسبوع، ومن ذلك أن هذا النظام يتماشى مع رؤية 2030 وأهداف المملكة في تحسين جودة الحياة، وتعزيز الصحة المجتمعية، بالإضافة إلى دعم الاقتصاد المستدام. كما يُعزز من ريادة المملكة عالمياً في الابتكار، ويجعلها وجهة مفضلة للعمل والاستثمار، خاصةً أننا نعمل حالياً على مشروعات ضخمة وقائمة، ولدينا على المستوى الوطني جداول أعمال مليئة بالمشاريع العملاقة في المستقبل، وهذا يستلزم قوة عاملة مُبتكرة وفعّالة، يمكن تحسين أدائها ودعم مكامن قوتها الجسدية والنفسية من خلال تقليل أيام العمل، حيث كشفت الدراسات أهمية الراحة البدنية والنفسية للإنسان، وأكدت أن تقليل أيام العمل يُساعد العاملين في مشروعات البناء والأعمال الشاقة على تحسين صحتهم العامة، وزيادة مستوى إنتاجيتهم، وتقليل خطر الإصابات.
ثم أن تخفيض أيام العمل يُتيح للموظفين ممارسة الرياضة، وقضاء وقت أكبر مع العائلة، مما يُقلل من التوتر ويُحسن الصحة النفسية، وهذا يُعزز رفاهية المواطنين والمقيمين، ويخفض من الأمراض المرتبطة بالإجهاد مثل الضغط النفسي وأمراض القلب، حيث يتوقع وبناءً على الاتجاهات الصحية في المملكة مستقبلاً أن الضغط النفسي قد يبقى مرتفعاً، خاصة مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية السريعة، وزيادة تحديات سوق العمل، وأن أمراض القلب ستبقى من أبرز التحديات الصحية، خاصة مع استمرار عوامل الخطر مثل نمط الحياة غير الصحي، وقلة النشاط البدني، والتغذية غير السليمة التي تفرضها عاداتنا اليومية ويشكلها السلوك اليومي للفرد.
وأعتقد أن وزارتي الصحة والموارد البشرية عليهما الاستفاضة في إجراء البحوث والدراسات وتقديم بيانات وتقارير موسعة لمناقشة مثل هذه الأمراض وعلاقتها بنمط الحياة اليومية وطبيعة الأعمال والمهن التي يُمارسها الأفراد في المجتمع.
كما أننا في المملكة في أشد الحاجة إلى التحول نحو الرياضة المجتمعية التي تستهدفها رؤية 2030 في أن نصبح مجتمعاً رياضياً نشطاً، وكيف نكون كذلك إذا لم يكن هناك وقت فراغ أكثر يُعطينا مساحة أكبر لممارسة الرياضة وحضور الفعاليات الرياضية والتفاعل معها، وكذلك المشاركة في الأنشطة الترفيهية المحلية مثل التسوق والسياحة الداخلية.
وبما أننا نتجه نحو اقتصاد قائم على الإبداع والتقنية (مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة)، حيث تعتمد هذه القطاعات على الابتكار أكثر من ساعات العمل الطويلة، فإن تقليل أيام العمل يمنح الموظفين مساحة أكبر من الهدوء والصفاء، بالإضافة إلى الوقت الكافي لإظهار إبداعاتهم وتطوير مهاراتهم أو التعلم، مما يدعم توجه المملكة نحو التحول الرقمي، وأيضاً مع التزام المملكة بخفض الانبعاثات الكربونية ضمن مبادرة السعودية الخضراء، يمكن أن يكون خفض أيام العمل خطوة إيجابية لتحقيق هذه الأهداف من خلال التقليل من استهلال الطاقة (مثل المياه والكهرباء في المكاتب) بالإضافة إلى الانبعاثات الناتجة عن التنقلات اليومية.
إن التجارب الدولية والدلائل العلمية تؤكد فاعلية نظام تقليل أيام العمل في تحقيق نتائج إيجابية على مستوى الفرد والمؤسسة والمجتمع.
ويمكننا البدء في هذا المشروع من خلال تطبيق تجريبي في قطاعات محددة، مع قياس دقيق للنتائج من حيث الإنتاجية والرفاه الوظيفي. كما نقترح تطوير إطار تنظيمي مرن يُقدم حوافز للجهات المشاركة في المرحلة التجريبية، وكذلك إنشاء منصة لتبادل أفضل الممارسات بين المؤسسات المطبقة للنظام، وتصميم برامج تدريبية لدعم الإدارة الفعالة للوقت والموارد.
إن الهدف الأسمى ليس مجرد خطوة ضمن خطوات تحسين جودة الحياة، بل هو إعلان عن دخول المملكة إلى عصر جديد من الابتكار والإبداع في بيئة العمل، وذلك في ظل رؤية 2030، التي تستهدف بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر، وهو يُمثل فرصة متميزة لتحقيق التوازن بين الإنتاجية وجودة الحياة، وضمان صحة الموظفين النفسية والجسدية.
كما أن تطبيقه لن يكون مجرد تقليد لتجارب عالمية ناجحة، بل هو مناسبة لإعادة تعريف مفهوم العمل والإنتاجية بما يتماشى مع تطلعات المملكة. فمع المشروعات الضخمة، واستضافة الفعاليات العالمية الكبرى، سيتيح للمجتمع السعودي مساحة أكبر للمشاركة في هذه النهضة، مما يُعزز مكانة المملكة كوجهة عالمية للابتكار والرفاهية، فحينما نضع الإنسان في قلب التنمية، يُصبح النجاح أمراً حتمياً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن تطبيق نظام العمل (4) أيام في الأسبوع يُعزز من قدرة المملكة على استقطاب الكفاءات المحلية والعالمية، ويُظهر التزامها بتطوير بيئة عمل مرنة ومبتكرة، تتماشى مع تطلعات الأجيال القادمة.
هذا التحول لا يقتصر على تحسين جودة العمل، بل يمتد ليشمل تطوير الاقتصاد الإبداعي، وزيادة الاستثمارات في القطاعات التقنية والرقمية، مما يُرسخ مكانة المملكة كمحور عالمي للتميز والإبداع.
كما أن هذا النهج سيكون جزءاً من سعيٍ مستمر لتطوير نموذج عمل يتماشى مع الطموحات الوطنية والتطلعات العالمية، ويوازن بين الإنتاجية والرفاهية الإنسانية، بالإضافة إلى أنه يُعزز من مكانة المملكة كقوة إبداعية وابتكارية على الصعيد العالمي.
وعندما تتبني المملكة هذا النظام، فإنها تُعزز من تطلعاتها نحو بناء مُستقبل يرتكز على الإنسان وتوازنه بين العمل والحياة الشخصية، مما يجعل من تجربة العمل (4) أيام في الأسبوع ليست فقط ابتكاراً في العمل، وإنما رمزاً للنجاح المتوازن والتنمية المستدامة.