إعداد - أ. د. فهد بن عبدالعزيز الدامغ:
تعد الجزيرة العربية موطن الإبل الأصيلة، اشتهرت بهذا منذ أقدم العصور، فقد أثبتت الاكتشافات والدراسات الأثرية والرسوم الصخرية أن استئناس الإبل في الجزيرة العربية يعود إلى ما قبل خمسة آلاف عام (الذييب، الإبل عطايا الله ص 26).
وكان للإبل حضور كبير في تاريخ الجزيرة العربية وموروثها الحضاري والثقافي عبر العصور، وكانت شريكاً فاعلاً لإنسان الجزيرة العربية في مجالات الحياة، وقد تردد ذكرها في أشعار العرب وأخبارها، وارتبطوا بها وجدانياً ومعيشياً وميدانياً، واحتلت لديهم منزلة فاقت مكانتها في أي أمة أخرى. وعندما ظهر الإسلام وقامت دولته استمر تقديرها والاهتمام بها على المستوى الفردي وتأكد على مستوى الدولة، وخير دليل على ذلك ما ورد عن الإبل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يولي الإبل اهتماماً كبيراً ويقتنيها، ومن أهم إبله تأتي القصواء ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي هاجر عليها، وامتطاها في غزواته وأسفاره -صلى الله عليه وسلم-، ومن إبله (الرواحل) أيضاً التي كان يستخدمها في أسفاره وغزواته: الصهباء، والعضباء، والمهري، والأحمر، كما كان لديه -صلى الله عليه وسلم- إضافة إلى ذلك أنعام من الإبل للاستفادة من ألبانها تسمى (اللقاح)، وكانت ترعى في مراعي حول المدينة.
وفي عصره -صلى الله عليه وسلم- حمى الحمى قرب المدينة المنورة لإبل وخيل الصدقة والجهاد. ونظمت سباقات للإبل في المدينة شهدها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشاركت فيها ناقته العضباء.
اهتمام الملك عبدالعزيز بالإبل
كانت الإبل الشريك الفاعل مع الملك عبدالعزيز منذ اللحظات الأولى لانطلاق مشروعه في استعادة ملك آبائه وأجداده، فعلى ظهور الإبل انطلق من الكويت يطوي الفيافي والقفار حتى أناخ رواحله أمام أسوار الرياض، وتمكن من استعادتها في الخامس من شهر شوال سنة 1319هـ / 1902م، وشرع إثر ذلك مباشرة في ملحمة التأسيس والتوحيد لأرجاء البلاد، وكانت الصافنات الجياد من الخيل، ونجائب الهجن من الإبل، رفيقة دربه في تنقلاته وفي حربه وفي إنجازاته، لهذا ولما تحظى به الإبل من مكانة في نفسه اكتسبها من ثقافة أسرته وقيم مجتمعه وإرث أجداده، كانت محل اهتمامه وتقديره ومحبته.
وكان من مظاهر اهتمام الملك عبدالعزيز بالإبل اتخاذ أحمية وموارد خاصة بها، وإسناد رعايتها إلى من يثق في خبراتهم وكفاءتهم، واقتناء الأصائل والنجائب منها، والحرص على الحفاظ عليها ورعايتها.
ريمات إبل (جيش) الملك عبدالعزيز
ريمات بالجمع، وتفرد أحياناً فيقال ريمة، اسم مشهور عرفت به إبل (هجن / جيش) الملك عبدالعزيز، وكان الملك عبدالعزيز يمتلك أفضل سلالات الهجن والإبل عامة بكل ألوانها وأنواعها، وكان يوليها اهتماماً كبيراً ويعتني بها وقد بلغ عددها أكثر من ثلاثة آلاف. وكانت الإبل (الهجن) المعدة للركوب وللتنقل وللحروب وحمل الرجال والعتاد أثناء الغزوات تسمى (الجيش) وهذا مصطلح معروف تردد في الأشعار والأخبار ولازال.
وكانت إبل أو جيش الملك عبدالعزيز قد اختصت باسم مميز عرفت به وهو (ريمات)، فيقال مثلاً نزلت ريمات الصمان أو نزلت الدهناء، بدل أن يقال نزلت إبل الملك عبدالعزيز، أو نزل حلال الملك عبدالعزيز.
وريمات كان الملك عبدالعزيز يعتمد عليها في الحروب في مراحل توحيد البلاد، يقول الشاعر عبدالله الصبي من أهل شقراء:
في ضحى الكون دورني وتلقاني
في ذرى بيرق ريمات يبرن له
وكان الملك عبدالعزيز حريصاً على أن يعهد بالإشراف على (ريمات) إلى أفضل الخبراء بالإبل وطباعها وما تحتاجه، ويمده بما يحتاج من رجال ومتطلبات، لذلك اختار لرعايتها في أول الأمر شويش بن ضوحي المعرقب المطيري.
وفي عام 1352هـ / 1933م حين استعرض الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ريمات لم يعجبه حالها، خاصة أن تلك السنة كانت سنة جفاف وجدب أثرت في الأبل، فالتفت الملك عبدالعزيز إلى أحد رجاله وهو فيصل ابن شبلان من الجبلان من مطير وكان يعرف خبرته في الإبل، وقال له: «الإبل وش تبي يا بن شبلان؟»، قال فيصل بن شبلان: «الإبل - يا طويل العمر - تبي لها ثلاثة: حادي، وبادي، وعلى الماء منادي»، ويقصد بالحادي الذي يقوم بالحداء للإبل وتوجيهها، ويقصد بالبادي الذي يقوم بارتياد المراعي المناسبة لها، ويقصد بعلى الماء منادي الذي يقوم بتوريد الإبل على موارد الماء وينظم ورودها، فرد الملك عبدالعزيز قائلاً: «ترا سلمتك ريمات يا بن شبلان»، ومنذ ذلك التاريخ أصبح فيصل بن شبلان مشرفاً على ريمات.
وكانت مرابع ريمات تمتد وتتنقل حسب مواقع نزول الأمطار وجودة المراعي، فكانت حيناً في الصمان أو الدهناء أو الدبادب، وحيناً في هريسان، وتصل في أحيان أخرى إلى الجوف، أما مقايضها فكانت غالباً على موارد وآبار بنبان قرب الرياض، أو على آبار خبيرا في الصمان. وقد اشتهر بوجه خاص فيصل بن شبلان في رعاية ريمات والإشراف عليها واستمر فيها مدة طويلة حتى وفاته سنة 1372هـ (مقابلة تلفزيونية مع حفيده فيصل بن سعود بن فيصل بن شبلان).
تجدر الإشارة إلى أن اسم (ريمات) أطلق على بوابة دخول الإبل بالصياهد بمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل التي تعبر معها جميع الإبل المشاركة في المهرجان تخليداً لذكرى إبل المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -.
أبرز إبل الملك عبدالعزيز
1 - مُصيّحَة
أشهر ناقة للملك عبدالعزيز، كان يستخدمها في المهمات السريعة والعاجلة، لتميزها بالسرعة وقوة التحمل، فهي من الهجن النجيبة السريعة؛ وكان الناس يسمونها (ذلول النبّ) أي الخبر أو التوجيه الصادر من الإمام إلى الجهات.
2 - الدُويْلِع
واسمها مشتق من (الدلع والدلال)، وهي ناقة رشيقة جميلة، وكان الملك عبدالعزيز يحبها، وهو الذي سماها (الدويلع)، وكان - رحمه الله - يناديها باسمها فتأتي إليه.
3 - العِلِي
وهي مجموعة (منقبة) من نوادر الإبل المتميزة، واسمها مشتق من العلو والتفوق على غيرها، وكان الملك عبدالعزيز يحبها، ويطيل النظر فيها لجمالها وتميزها، وحين تعرض أمامه يطلب إعادة عرضها، يقول الشاعر (فيصل بن شبلان) المشرف على إبل الملك عبدالعزيز (ريمات):
رد الدويلع والعِلِـي
خل الإمام يشوفها
عبدالعزيز الفيصلي
مقدم جميع صفوفها
يوم المعـارك تصطلي
وصلف الهبوب يلوفها
سيفه على الخصم يعلي
يرد العدا بشفوفها
وسم إبل (جيش) الملك عبدالعزيز
وسم إبل الملك عبدالعزيز هو وسم أسرة آل سعود عامة، ويتكون من حلقتين بينهما مطرق (|) وتكون على الفخذ الأيسر للناقة أو الجمل (انظر الصورة)، ويعرف هذا الوسم باسم (الرديف).
يقول الشاعر:
نرعى بقطعان الإمام
يزهى بها وسم الرديف
نسوقها شرق وشام
من حيث ما لاح الرفيف
عناية الملك عبدالعزيز بالضوال (الهمّل) من الإبل
من مظاهر الاهتمام بالإبل من أئمة وملوك الدولة السعودية تخصيص حمى خاص بالإبل الضالة، أو ما يعرف بـ (الهمَّل) التي تهيم في البوادي ولا يعرف صاحبها، فخوفاً عليها من الهلاك من العطش ونحوه، وقد وجه أئمة الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة بجمع هذه الإبل في أحمية خاصة، وتكليف من يقوم عليها، ويعتني بالإبل وسقايتها. وإذا حضر من يطالب بها ويذكر أنه صاحبها يحضر ما يثبت ذلك وتسلم له.
وهذا العمل المحمود يأتي اقتداء بالسلف الصالح، فقد ورد أن الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عمل بهذا، وجعل على ضوال الإبل وكانت تسمى (الهوامي) سمرة بن عمرو العنبري التميمي (ترجمة سمرة العنبري).
وفي عهد الدولة السعودية الأولى، أصدر الإمام عبدالعزيز بن محمد أمراً ينص على أن من يجد إبلاً ضالة في الصحراء فعليه القدوم بها إلى الدرعية، وعين عليها (عبيد بن يعيش)، مسؤولاً عن جمعها ورعايتها وتكاثرها، وخصص لها حمى خاصاً، وكان كل من فقد شيئاً من الإبل، أتى إلى ذلك الحمى، فإذا عرف إبله أتى بشاهدين، أو شاهد ويمينه ثم أخذها (وزارة الثقافة، الدليل المعرفي لإبل، ص 77).
وقد سار على هذه السنة الحسنة الأئمة بعد ذلك، وفي عهد الإمام الملك عبدالعزيز كانت الإبل الضالة (الهمَّل) تجمع على النهج نفسه ويعتنى بها، حتى وإن كانت كبيرة السن ولا فائدة منها وإنما هذا من تقديره للإبل، ومما ورد في تقدير الملك عبدالعزيز للإبل ومحبته لها قصة حدثت في أحد الإيام حين كان في مخيمه قرب العقير، فشاهد جملاً بدت عليه علامات التعب من السير المتواصل وثقل الحمل والحر الشديد وكان ضمن قافلة مرت بقرب المخيم، حينها رأف الملك عبدالعزيز بالجمل وطلب من صاحبه أن يخفف حمله ويتركه يستريح. وقال - رحمه الله - عبارته المشهورة: «من لا ينصف بعيره لا ينصف الناس» (انظر صورة الوثيقة المرفقة بشأن الإبل الهمَّل).
** **
- الأستاذ بقسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية